ثمة في الكتابة ما لا يقوى أحدٌ على قهره، في ظل هذا العسف المديد، الذي ينسجُ ظلمته كلما تاهت نقطة ضوء من هذا العالم، ظلمة تحاول خنق الأمل، تشتد كلما ملأنا الإحساس بأننا قد نقترب من لحظة خلاص ما. لكن الحروف التي تُسقى بأديم الروح لا تظل عصية على الخنق فحسب، بل إنها تغالب الموات وتزيحه كلما خلق الكاتب نصًا جديدًا، في الحيز الذي يختبر فيه وجوده، وكينونته. حيز المواجهة اليوم لم يعد محدودًا أو ضيقًا، الحرب تتسع بما تلتهمه من الأرض والناس، ومن القيم.. هو ليس ضيقًا بفعل الكتابة أيضًا والإنجاز النصيّ في الأدب.
في ظل هذا الخراب العميم، حيث الموازين مختلة بين فرقاء الاحتراب والتضاد، حيث تسود علاقات القوة والقدرة على استلاب الحياة والحرية، والاستقواء على المثقف – المدني واستتباعه حيث لزم لتطويعه، أو إجباره على الصمت في الحدّ الأدنى، تصبح الكتابة ضرورة قصوى ليس للنجاة، بل لممارسة فعل الحياة والمشاركة فيها. قد تبدو لي “النجاة” فعلًا انهزاميًا، إن جاز التعبير، لوهلةٍ أولى.. لكنها أيضًا هي تجاوز الأثر المباشر لفوضى تثير الموت والدمار وغبار الحرائق.
النجاة بالنسبة للكاتب هي أن يفعّل اللحظة التاريخية، ويرتهنها للكتابة، وتلك مساهمة لابد منها اجتماعيًا وفكريًا، في عملية التغيير الممكنة.
كل كتابة هي فعلٌ مؤثر في الحياة العامة، ويجب أن يمارس الكاتب دوره الطليعي في المجتمع، على الرغم من ثقافة الإقصاء التي تسود الحالة الراهنة. الإرتكان إلى فعل التهميش والإقصاء هو ارتهانٌ لمشيئة الخراب، وارتضاءٌ لسحب الظلامية الرعناء، أيًا يكن مصدرها وشكلها وهويتها. لم تتغير مسؤولية الكاتب التنويرية تبعًا للتحولات الشاملة التي نعيشها جراء الحروب، وتقلبات المفاهيم، وتبدلات دلالاتها.
من هنا تأخذ الكتابة أهميتها، نسقًا في التفكير، رؤية في الوجود وتمعنًا في صورة الحاضر، ومفاعيله، ولا يجب أن تقف الكتابة عند حدود التعبير الذي يقتفي الوصف، ولا يشارك في فعل الحياة، وخلق معطياتها، أنّا تكن الظروف. ما يحدث هو صدمة بكل المقاييس، ما لم تتصوره مخيلة الكاتب الذي ينسج أحلامًا وحكايات، لكنه لم يزل أسير الدهشة لهول ما جرى ويجري. على الكاتب أن يخرج من صدمته وأن يعمل على تجاوز مفاعليها عبر الكتابة. هي إعادة بناء للإنسان، في ظل ما يقوم به الطغيان والإستبداد ومنذ نصف قرن في سوريا، هدْمًا على هدرِ دمٍ، على انتهاكِ حرمة التاريخ والحضارة وسرقة أوابدها وإبادتها، بعد أن صمدت في مواجهة كل الغزوات عبر العصور، آلت إلى غبار على يد المستبد الذي طغى باسم “الوطني”، ليعيث في البلد تدميرًا و تهجيرًا، وفي كل مشهد كان الكاتب مستهدفًا وضحية.
إزاء هذا الواقع المرير يمكن للروائي أن يبني عمارة السرد، وللشاعر أن تلد روحه نصّه الشعري، عشبة الكلام.. مثلما تورق السنبلة في الأرض المحروقة.
الكتابة في بحر الدم والركام، هي عمار للروح لعلها تتعافى من آلامها، وتعينها على النهوض من جديد.
لقد بدأت الحياة الثقافية السورية، تشهد ولادة أعمال أدبية عديدة في الرواية والشعر، تتناول الحدث. وثمة أعمال روائية عديدة برزت خاصة خلال السنتين الآخيرتين، إضافة إلى أعمال أخرى هي أقرب لنصوص السيرة، ويوميات الحدث السوري، من خلال موقف الكاتب ورؤيته وانشغاله.
وإن كانت الرواية السورية ما تزال قاصرة عن الألمام بالحدث، ذلك أن الكتابة الروائية، ليست تسجيلًا لحدث واقعي مباشر، وأهميتها في الإبداع الأدبي الذي يمنح النص قيمته في لغته، وفي مدلولات الكتابة، وتأويلاتها للحدث. هنا تكمن الصعوبة، في أن يقدم الروائي نصًا جديدًا في إضافته إلى متن الرواية، لا نصًا كميًا عجولًا يأتي فيه الإنشغال بالحدث على حساب القيمة الفنية للعمل. غير أنه ينبغي القول لايمكن لنص روائي أن يلم بكل جوانب الحدث، والإرتقاء إليه نسبيٌ، وليس ضرورة، حرية الكتابة والتعبير تمنح الكاتب مقدرة غير محدودة، على مقاربة الأماكن السحيقة في الحرب والثورة وظواهرهما، ليخلق النص فرادته. ليس بالضرورة أن يكون النص مرتبطًا بالواقع، كي يكون حرًا. الحرية شرط سابق في الكتابة، وكأي كتابة حرّة من شأنها التأثير في الواقع وفي تغييره، أن تكون جزءًا منه، ومعبرة عنه.
بلا شك، الكتابة هي حرية، لا أحد يستطيع انتقاصها، سوى الكاتب نفسه، بمقدرته الإبداعية، وبمهاراته اللغوية، وبمداركه المعرفية. هو من يستطيع الوصول بالنص وممارسة الكتابة أقصى درجة ممكنة له في فضاءء الحرية، وهو من يعثر في خطو الكلام ويبقى حبيس أفكار، أو توجساتٍ تفقد كتابته بريق الحروف الحرّة، وحرارة التعبير وألق الفكرة.
الكتابة كشف وتعرية وتفكيك. لقد فعلت الثورة فعلها فمزقت حجب الخوف في دواخل الإنسان، وحريّ بالكاتب أن يجعل منها لحظة انعتاق كامل لاعودة فيه. في الأصل هي ثورة ضد مصادرة حقوق التعبير والرأي. التخلص من الشرطي في الداخل أسُّ التحرر، بقاء أي ظلٍ منه يعيق حرية الكتابة والتفكير معًا، ويجعله مكبلًا،عاجزًا، غير قادر على ابتكار نص جديد، بلغة جديدة..
إن سنوات خمسٍ من الثورة، خمسة أعوام من القتل والتدمير والتهجير، ليست وقتًا قصيرًا أو محدودًا، يحول دون أن يتشكل فيه النص الروائي، دالًّا بقيمة أدبية عالية، على حدث جسيم بمكوناته وتقلباته وتغيّراته المقضّة. وقد آن أن تترسخ الكتابة اليوم كفعل حضور جمالي يحرض على التفكير بالمستقبل ورؤيته باتساعٍ وانفتاحٍ مديدٍ على كل المشكلات والقضايا، بكل حرية وجرأة، وهذا ما يمنح الكتابة بُعدًا إضافيًا لقيمة المبنى والمعنى.
لنكتب.. وليأخذ النقد دوره ويستعيد مكانته المؤثرة في حركة الأدب والمجتمع، ما أحوجنا إليه اليوم. الكتابة فعل حياة، لعلنا نساهم في إخماد الحرائق التي ستطول، في وهاد أرواح الناس التي أدمنتها الحروب وأرهقتها المعاناة التي يعجز الأدب لوحده عن تصويرها. الكتابة الحيّة، قد تكون أكثر جرأة وحرية مما سيلي من وقت، يفرض فيه شروطًا وحجبًا وممنوعات جديدة.. تحت ذريعة السلم الأهلي، أو بحجة احترام الأديان، أو قهر وكلاء الله الذين يقتلون الناس بسبب أحلامهم وأمنياتهم. ولنتذكر دائما أن الطغاة يتبدلون إن لم نذهب إلى أقصى درجة ممكنة في حرية القول والتعبير.. حرية بلاحدود للكتابة.
__________________
عبدالرحمن مطر
كاتب سوري
مدير مركز الدراسات المتوسطية