لا يمكن للسياسة أن تبقى مخبأة خلف الشعارات

سوريا الأوروبية تنهار أمام سوريا الأمريكية.. لا يمكن للسياسة أن تبقى مخبأة خلف الشعارات

المشروع الإيراني وأدواته التنفيذية المتمثلة بالميليشيات المسلحة، واضح لا لبس فيه، كما أن تعنت النظام على التعامل القمعي والعنيف مع كل من يختلف معه أو يعارضه، وتحوله مع هذا الخيار إلى مجرد ميليشيا من الميليشيات الطائفية المؤتمرة بإمرة إيران، أيضاً أمر مفروغ منه ولا يمكن لسوريين أن يختلفا حول ذلك أياً كانت التسميات التي تنعت بها هذه التبعية ” محور المقاومة، الممانعة، الهلال الشيعي، حزب ولاية الفقيه”.

الحال ذاتها مع الميليشيات الإرهابية الأخرى المنتشرة بوضوح، فثمة ملامح تشير إلى بلاد المنشأ والجهات الآمرة.
أما لوحة التدخلات الأوروبية والأمريكية فتبقى الأكثر تشابكاً وتعقيداً إلى لدرجة يمكن فيها طرح السياسات من خلالها كإمكان للمساعدة في الوصول إلى الحد الأدنى من التغيير المنشود سواء على المستوى الوطني الداخلي أو على المستوى الإقليمي.

معلوم أن القوتين الأوروبيتين الرئيسيتين، فرنسا وبريطانيا، كانتا المهندستين لإسقاط الإمبراطورية العثمانية في بدايات القرن العشرين ورسمتا سوية خرائط الدول القائمة حالياً وفق رؤيتهم لمصالحهم الإستراتيجية، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية كإحدى نتائج تضارب المصالح بين القوى الأوروبية نفسها، ولم يكن صعود أمريكا واحتلالها المكانة التي تتبوؤها منذ أكثر من سبعة عقود إلا نتيجة من نتائج الحرب الثانية التي كانت أوروبية الملمح والمكان والتكاليف الباهظة ” أكثر من خمسين مليون ضحية”، طبعا هذا لا يستثني اليابان التي دفعت التكاليف مع الأوربيين.

أما الطامة الكبرى على الأوروبيين والأكثر كلفة فكان استمرار الحرب بين شرقها وغربها بشكل مكثف خلال فترة ما سمي بالحرب الباردة بين المعسكرين ” الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي والليبرالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة”.

أصبحت أوروبا طوال عقود ما بعد الحرب أشبه بمستعمرات أمريكية بحكم قيادتها في اللحظات الأخيرة للحرب بين القوى الاستعمارية الأوروبية من أجل التخلص من آفة النازية والفاشية اللتين حاولتا فرض سيطرتهما على أوروبا وعبرها على العالم.
انتهت قعقعة السلاح في أوروبا ولكن الحرب العالمية الثانية لم تنته، ما زالت تبعاتها مستمرة، وما زالت الاستراتيجيات الأوروبية ترسم بعيدا عن مصالح القارة الأقرب لشرقنا المتخم بتناقضاته وكوارثه التي تؤثر على أوروبا تأثير الابن على العائلة الكبيرة، فيما تسير الولايات المتحدة الأمريكية وفق خطى الغريب البعيد راسما خطوطه دونما اهتمام للعائلة الإنسانية البعيدة، وكأن الشرق كوكب آخر لا يستحق إلا ما يجري له.

لسنا هنا بصدد انتقاد الموقف الأمريكي من المأساة المستمرة في سوريا منذ أكثر من خمس سنوات، المأساة التي بدأت بثورة سلمية وانتهت بكارثة حرب أهلية الطابع بالوكالة عن صراعات الآخرين واختلافاتهم وخلافاتهم، حرب توافقت الرغبات الدولية في انطلاقتها حين أدارت ظهر المجن للقمع الوحشي الذي تعرض له المتظاهرون السلميون ولم يتخذوا أي قرار رادع بإشراك ميليشيات طائفية عابرة للحدود في قمع السوريين المطالبين بقيم الحرية والعدالة والمشاركة السياسية والاقتصادية التي تتكئ عليها المنظومة الدولية في تقييمها للأنظمة والدول عبر العالم.

غروب أوربا يبدأ في سوريا

هو أقرب إلى غياب غير مشروع، أو إجازة بلا راتب منحها الأمريكي لشركائه السابقين في الحرب على أوروبا الشيوعية، أو القطب الشيوعي. الأمريكي الذي طالما استهواه اللعب وحيداً في الشرق، جرياً على مثل شامي معروف: “العب لوحدك تلعب مرتاح”. . .لكن روسيا بوتين لم تترك له الفرصة للعب وحيداً هذه المرة حين وصلت رياح الربيع العربي إلى معقله التاريخي سوريا، التي ورثته بعد غياب فرنسا أو في حرب تسجيل النقاط أيام الحرب الباردة، فقبلَ شراكتها مرغماً وعلى مضض في الملعب السوري، بعد أن أقصاها سابقا بالقوة حيناً وبالخدعة أحياناً أخرى عن مناطق نفوذها الرئيسية في المنطقة العربية “العراق، ليبيا، مصر، اليمن”.

الغياب أو التغييب الأوربي بدأ بالتدريج، فكان الحضور الأوربي، والفرنسي تحديداً، واضحاً وفاعلاً في السنة الأولى من الثورة عبر فتح قنوات تواصل مع المعارضات السورية التي تميزت بالتعدد المذهل في اتجاهاتها وتنظيماتها وارتباطاتها وولاءاتها، لكنه بدأ بالانحسار تحديداً بعد أزمة الكيماوي عام 2013، حيث بدأ اللاعبان الروسي والأمريكي بإخراج قصة تدمير الترسانة الكيماوية للنظام مقابل غض النظر عن ضربة عسكرية كان حلفاء أمريكا الأوربيون، وفي مقدمتهم فرنسا، متحمسة لها أيما حماس، ووصل الأمر إلى تهيئة قواعد لانطلاق الطائرات الأطلسية وتحديد بنك أهداف لحرب خاطفة وحاسمة على مراكز قوة النظام السوري، الأمر الذي كان سيشكل انعطافا مفصليا ومصيريا في مآلات الصراع في وعلى سوريا فيما لو نفذ.

لكن الشريكين المستجدين طبخا اتفاقا فاجأ الأوربيين حينذاك نص على تجريد النظام من أسلحته الكيماوية مع كل ما يتعلق بها صناعة ودراسات ومواد أولية، فيما كان التعليق المقتضب للوران فابيوس وزير خارجية فرنسا على الاتفاق بأنه “تقدم مهم” وتأكيده ان باريس (ستأخذ في الاعتبار تقرير خبراء الأمم المتحدة حول الهجوم الكيماوي في 21 آب/أغسطس “لتحدد موقفها) اشارة الى بدء القلق الفرنسي، والأوربي تاليا، من إرهاصات انفراد أمريكي روسي في إدارة الأزمة السورية.

لم يكن فتى أمريكا المدلل “إسرائيل” بعيدا عن الطبخة، بل كان المعد الأساسي لها، وقد انكشف الدور الاسرائيلي في الدفع الى الاتفاق الروسي الامريكي حول الكيماوي السوري على لسان الوزير الإسرائيلي يوفال شتاينتز الذي أكد في مقابلة يوم 15 حزيران 2015 أنه هو الذي اقترح الاتفاق الموقع نهاية عام 2013 بعد تهديدات أوباما بضرب النظام السوري في حال تجاوزه الخط الأحمر الشهير باستخدام الأسلحة الكيماوية في قمع التحركات الشعبية والمعارضة المسلحة.

وأضاف شتاينتز أنه فضّل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتينياهو عدم كشف الدور الإسرائيلي في الاتفاق مخافة أن يُرفض باعتباره “مؤامرة إسرائيلية يجب وقفها”، هذا بالإضافة إلى عادة سياسة إسرائيلية متواترة تقوم على عدم الاعتراف بالعمليات التي تقوم بها أو التي تقف خلفها إسرائيل إلا في حال الضرورة.

ويروي شتاينتز أنه وبعد إعلانه في مقالة إذاعية أن إسرائيل تملك دلائل على أن نظام الأسد هو من يقف خلف الهجوم الكيماوي قرب دمشق في آب/أغسطس 2013، طلب دبلوماسي روسي مقابلته. وقبل دخوله الاجتماع، ناقش شتاينتز ومدير وزارته، يوسف كوبرواسر، تهديد أوباما بضرب نظام الأسد.

وأضاف “قلنا لأنفسنا: ما الفائدة المرجوة من استخدام خمسين أو مائة صاروخ توماهوك ستسقط في قواعد عسكرية نصف فارغة في سوريا؟ إذا كان الأمر يتعلق بضربة واحدة فهذا لن يشكل رادعاً لاستخدام الأسلحة الكيماوية. إن أفضل شيء ممكن هو أن تقوم روسيا والولايات المتحدة بالتعاون معاً من أجل تفكيك الترسانة الكيماوية السورية”.

ثم بدأت تنجلي شيئا فشيئا ملامح هذا الاستفراد الثنائي بالساحة السورية من خلال الدعم الأمريكي بالمال والسلاح والمعلومات مباشرة أو عبر حلفائها الإقليميين لقوى وفصائل بعينها، مع تغييب حلفاء أوربا في المعارضة أو السكوت على تغييبهم وإبعادهم عن الفعل السياسي والعسكري، مقابل انخراط روسي مباشر في الحرب الدائرة على امتداد الجغرافيا السورية.

الآن وبعد اتفاق كيري لافروف الذي بقي سرا في بنوده الأساسية توضحت تماما لعبة إبعاد الشريك الأوربي عن الساحة السورية حتى طالب أكثر من مسؤول أوربي علنا بالكشف عن الاتفاق السري بعد ان كانت الاحتجاجات الأوربية خجولة وأسيرة الغرف المغلقة، هذا ما أعلنه على الأقل أكثر من مسئول فرنسي وألماني عبر وسائل إعلام بلادهما.

إن تغييب أوربا عن الساحة السورية وقصر دورها على استيعاب ملايين اللاجئين السوريين يمثل بدء مرحلة جديدة ربما تكون بداية تحلل الحلف الأطلسي الذي يجمع أمريكا والقارة العجوز، بل تفكك الاتحاد الأوربي نفسه (اقرأ الخروج البريطاني من الاتحاد بما تمثله من رأس حربة أمريكية في جسد أوربا).

وبالنسبة للسوريين فهو حدث سلبي يؤشر إلى انفراد قوتين بإدارة الأزمة فلا يومض ضوء في آخر النفق إلا وينطفئ سريعا، فأوربا تريد التحلل من ارثها الاستعماري ببناء ديمقراطيات مماثلة لها في الشرق إضافة إلى حضور قوى سياسية وأهلية أوربية تسعى لحل كل القضايا الإقليمية والدولية سلميا مع التلويح بالقوة الناعمة ما أمكن، فيما يغذي الأمريكان والروس القوى ذات النزعة الإلغائية والأحادية (أصوليين، قوميين، يساريين سابقين) بما يضمن استمرار الحرب إلى أجل غير مسمى.

إن واجب القوى الديمقراطية السورية أن تصر على حضور أوربي فاعل وعادل في أي محفل يخص الأزمة السورية ليس حبا بها وإنما تأكيدا على القيم التي رفعت من شأن الإنسان عاليا بدءا من الثورة الفرنسية وليس انتهاءا بالاحتجاجات الطلابية في أيار مايو 1968 التي غيرت وجه العالم والأكثر إلحاحا لتحقيق توازن مقبول في الثقل الدولي الذي سيقرر أخيراً أي حل سياسي لإنهائها وإخراج البلاد من هذا الخراب المزمن.

أحمد الجربا – رئيس تيار الغد السوري

تعليقات الفيسبوك