كشفت الثورة السورية، عبر سنوات الدم والحرائق والموات والصبر، بؤس هذا العالم المتمدن، وأضاءت على هشاشة القيم التي ما فتئ يتشدق بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وينتصر لحقوق الحيوان، ويخوض معارك كبيرة سياسية وقانونية من أجل حماية البيئة، وهو على استعداد لإحراق العالم برمته، إن أصيبت منظمومته بأذى. لكنه لم ينتصر لأية قضية عادلة في العالم، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. لم يقف إلى جانب الشعوب، بل كان على الدوام نصيراً للمستبدين ومعينهم على وأد الديمقراطيات الناشئة في المنطقة.
جردة حساب لعلاقات الغرب مع قادة ديكتاتوريين في المنطقة العربية لثلاثين عاماً الأخيرة: الأسد والقذافي وصدام ومبارك بن علي وصالح، تعطي أدلة كافية حول انحياز الغرب ضد القيم التي ينادي بها. والمثال الأكثر أهمية اليوم: علاقة المجتمع الدولي بالديكتاتورية الأسدية المتناسلة منذ نصف قرن في سوريا.
هذا العالم الذي يدّعي حرصه وجهدهم، أجل السلام العالمي، وقف الحروب وإنهاء النزاعات المسلحة والاحتلالات. هو في الحقيقة من يشعل الحرائق أنّا شاء، وحين يعمل على إخماد إحداها، فإنه يبقى على الجمرة متقدة في العمق الدفين، ينفخ فيها بلا توقف كي يبقي على الضغائن في أقصى درجات الجاهزية للانقضاض. وهذا العالم ليس صحيحاً أنه عاجز امام القوى الدولية المتحكمة فيه اليوم، بل إن تبادل المصالح هو ما يشكل نسيج العلائق القائمة بين تلك القوى والأطراف، وهو ليس عالم أصم أعمى، كما نردد دائما بأن المجازر تبيد السوريين بانتظام، تحت سمع وبصر العالم. هم شركاء بكل الصور والتي يمكننا التحدث فيها وعبر وسائل مختلفة.
ليس كلاما إنشائياً، فما يحدث في حلب منذ عام ونيّف، وقد بلغ ذروة الجحيم، بعد انتهاء الهدنة، دون ان يتمكن المجتمع الدولي من إدانة هذا القتل اليومي. لأنه يريد أن يستمر النزيف الدموي والخراب، ونزيف السوريين خارج بلدهم، كي لاتبقى قوة اجتماعية وسياسية واقتصادية في بلد اسمه سوريا، خرج من كل المحن عبر التاريخ، وكان رقما صعباً في كل الموازين وفي مواجهة كل الاحتلالات.
إبادة السوريين عبر حالة اغتيال مستمرة منذ خمسة اعوام ونصف، لم تثر حميّة المجتمع الدولي الذي يشير الى الشرعة الدولية لحقوق الانسان، وحقوق الشعوب، بأنها منجز حضاري للمستقبل، في كل اختبار حقيقي على الأرض، تتضح الصورة أكثر: لا أهمية للدم المسفوح، إن لم يكن دمهم! هكذا يقيس الغرب القضايا والمشكلات الدولية والإقليمية بمقاييس متعددة، ويكيل مواقفه بعشرة وجوه.
الصمت المطبق الذي خيم على جلسة مجلس الأمن قبل أيام، حين كان الجعفري يعلن إمعان النظام الأسدي في ارتكاب المجازر، كان يكذب في كل شئ، وكل ما تحدث به يعدّ تبريرا وشرعنة وتحريضا على القتل في سوريا. الجعفري لم يكن وحده يغتال الحلم السوري، لكن الدول الاعضاء التي تعرف حقيقة الكلام الذي يقوله بأنه كذب، وأنه تبرير للجرائم، ومع ذلك كانوا ينصتون إليه، دون أن يواجهه احد بحقيقة ما يفعله النظام وروسيا وإيران في سوريا. تصريح مندوبة الولايات المتحدة، بأن ماتفعله روسيا والنظام في حلب يرقى لجرائم حرب، هو كلام للإعلام، لا قيمة له، ونص التعبير لا يرقى الى التجريم الفعلي، ولا يقود إلى مسائلة دولية، لا نريد القول “المحاكمة” فالعالم بلا عدالة.
أباح العالم لثالوث الخراب: أسد وبوتين وخامنئي، أن يرتكب من جرائم الإبادة المنظمة بحق السوريين بمختلف وسائل الموت المحرمة دولياً، منذ كيمياوي غوطة دمشق وصولاً إلى القنابل الفوسفورية والعنقودية والفراغية في إدلب وحلب، بلا نأمة أو إدانة أو اعتراض.
اغتيال الحلم السوري، مباح. لم يكن لثالوث الخراب أن يقوم بذلك، دون دعم صريح من المجتمع الدولي، بمن فيهم “أصدقاء سوريا” الذين كان السوريون يسمعون جعجعتهم ولا يرون طحيناً. لم تتخذ الدول الأعضاء إجراءات سياسية حاسمة منذ بدء استخدام النظام للسلاح ضمن الحل الأمني لمواجهة انتفاضة السوريين: كان سفراء الدول العظمى المؤيدة للثورة يملكون كل المعلومات والحقائق أكثر من السوريين انفسهم، ومع ذلك لم تصدر عن حكومات بلادهم، حتى اليوم إجراءات توقف القتل والتدمير، وتطيح بالأسدية الطاغية الفاشية.
اغتيال الكاتب الاردني ناهض حتر، قبل أيام، ترافق مع مجزرة ارتكبها ثالوث الخراب، في حلب وراح ضحيتها قرابة 100 شهيد، وتدمير المشافي، لم تحرك ضمير أحد في هذا العالم بما فيه مجلس الأمن الذي كان ينصت لمجرم صفيق هو الجعفري. انشغل الجميع بحادث الاغتيال، وأقيمت الدنيا من أجله ولم تقعد بعد. أما اغتيال المئة في سوريا، ومن قبل، مئات الآلاف فقد كان ويظل حدثاً غير ملفت للاهتمام، حدثاً مشروعاً بانتظار المزيد. مثله في ذلك الاستهداف اليومي للمدنيين وتجمعاتهم السكنية والصحية، وتنفيذ اغتيالات على مدار الوقت، بما في ذلك اغتيال المعتقلين تحت التعذيب، العالم الذي اتكأ السوريين في حلمهم إلى دعم سياسي لانتفاضتهم في البدء، ايماناً منهم بأن قيم الحرية والعدالة ستبقى حيّة، وانها ستنتصر لثورة يستعيد فيها السوريون حريتهم وكرامتهم. لكن هذا العالم كان يعمل بدأبٍ على دعم نظام الأسد، وبالمقابل يُضعف الثورة السورية، بغطاء من الوهم.. تتكشف أستاره عن آخرها اليوم.
الإمعان في اغتيال السوريين، وفي خنق أحلامهم وآمالهم، بالفوسفور والعنقودي، وفي فتح أبواب المجتمع الدولي ومؤسساته أمام ممثلي نظام الجريمة الأسدية المنظمة، سيشد من عضد السوريين رغم اشتداد المحن والآلام، ولسوف تنهض من رمادها وأوجاعها ومصائبها، وسوف تحتفي بحلب أميرة للمدائن..التي لاتموت ولا تختنق!.
__________________
عبدالرحمن مطر
كاتب سوري
مدير مركز الدراسات المتوسطية