مكونات الهوية السورية
من الواضح تماماً أنه لا ولم توجد هوية مركزية غالبة في تاريخنا السوري يمكن تسميتها بأنها هوية وطنية سورية جامعة حيث نرى وجود أكثرية أبدية مع أقليات ومذاهب أبدية لا تعرف بعضها بعضاً , ولم تتهيأ لها ظروف ذاتية تجعل من تلك الهويات تعيش حالة تواصل وحوار بينها لتصل إلى القواسم المشتركة على أساس وطني يخلق إنتماءً وطنياً لجغرافيا محددة اسمها سورية.
تتعايش في سورية العديد من الأديان والمذاهب والطوائف والأعراق دون أن تختار هي ذلك ,بل فرض عليها فرضا عبر ما يسمى سايكس- بيكو ,فتم انتاج دويلات وحدود في الشرق الأوسط وأعطي بعضها تسميات لم تكن معروفة في التاريخ .
لم تستطع هوية واحدة أن تشكل عنصراً جاذباً لبقية الهويات الأخرى, ولم تستطع هوية واحدة من التغلب على الهويات الأخرى ولهذا اضطرت للتعايش مع بعضها دون وجود مواثيق وعهود تعايش مكتوبة وهنا تحقق نوعاً من توازن الضعف بين المكونات .
بالنظر الى التاريخ الأنساني عامة ,وتاريخنا خاصّة نجد أن الهوية الدينية والمذهبية والهوية العرقية ليست معطيات ثابتة بل هي متحركة, مرتحلة ومتقلبة حيث الكثير من المذاهب اندثرت وبعضها انتقل من حالٍ لحالٍ أخرى والكثير والكثير من الأعراق ذوّبه الزمن في إطار جغرافي محدد لكننا حالياً نرى عكس ذلك حيث تحاول معظم الهويات العرقية والدينية والمذهبية إكساب هوياتها , كلاً على حدة, نسقاً ثبوتياً من خلال تأويل التاريخ والجغرافيا والسياسة والنص الديني تأويلاً وظيفياً يقفز على الكثير من التحولات ويختلق الأساطير ويعيد كتابة التاريخ ليعطي لهويته الشرعية التاريخية وحتى الجغرافية.
يمكن أن نصنف الهويات بشكل عام إلى نوعين :
أ- هوية حوارية تخضع دائماً للنقد والمراجعة المستمرة لدورها ولا تحاول أن تفرض نفسها على الآخرين وهي تتجه لتصبح وعياً كينونياً أولياً يتراجع أمام الهوية الوطنية الجامعة.
ب- هوية صراعية تتجه دوماً إلى فرض نفسها على الآخرين مدعية احتكار الحقيقة والشرعية التاريخية فتعمل على إنتاج وعي مزيف يجعل الفرد فيها فاقداً لاستقلاليته ومستلباً تماماً أمامها ,ليعيش حالة قطيعية.
الآن وبعد مرور سبعين عاماً من عمر الدولة السورية لم تتمكن النخب السياسية التي تعاقبت على حكم سورية من إنتاج انتماء وطني واضح ومحدد لجغرافية ودولة اسمها سورية بل سادت الانتماءات الماقبل وطنية من عشائرية وطائفية وعرقية ودينية وحتى مدينية وحاراتية وهذا كان سبباً رئيسياً في عدم وصول السوريين كافة إلى أن يصبحوا شعباً واحداً ينتمي لهوية واحدة اسمها الوطن السوري بل بقوا شعوبا وقبائل وطوائف واديان تقودهم انتماءات وهويات ماقبل وطنية مشبعة بالحديث عن الحقد التاريخي والخلاف العقائدي والصراعات بين الطوائف والمكونات مما ترك لنا إرثاً تاريخياً متخماً بخوف المكونات من بعضها البعض .
للحقيقة لقد عاشت الأقليات قروناً عديدة من الأضطهاد في فترات تاريخية سابقة، وقد كرست كل قدراتها وطاقاتها للدفاع عن هويتها وليس لانتاج وطن بهوية جامعة ,هذا الأضطهاد لا يزال يثير مخيلة الكثير من المكونات السورية ويجعلها تعيش حالة من القلق والتوتر والابتعاد عن الإندماح بمشروع وطني جامع ,وكي نبدأ بالتخلص من تركة الاضطهاد التاريخي الثقيلة للأقليات لا بد من تأسيس دولة المواطنة التي لم توجد يوماً واحداً في بلادنا ,دولة المواطنة تلك المبنية على أساس المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات لكل المكونات السورية , حيث لا تمييز بين كافة السوريين على أساس الدين أو العرق أو الطائفة .
كان الحكم الاستبدادي مدركاً لأهمية القبض على مفاضل الصراع الكامن بين المكونات السورية تاريخياً فأخذ يغذيه من جوانب متعددة حتى استطاع أن يمسك بكافة خيوط اللعبة الطائفية ويوجهها بما يخدم مصالحه هو، فقط مستخدماً لذلك الكثير من الأسباب الأساليب القائمة على الإغراء والتهديد فقام بالتخلص من أية قيادات أو واجهات اجتماعية غير موالية له وعين بدلاً منها عملاء له عملوا على محاربة أفراد جماعاتهم المعارضين لنظام الأسد , واستطاع أن يبني تحالفا بين بنيته الأمنية والعسكرية والبنية التجارية والمؤسسة الدينية السنية وتحكم بآليات عملها وتوجهاتها إضافة لاقناعه لمعظم الأقليات بأنهم مهددون وجودياً من قبل الأكثرية السنية وبذلك نصب نفسه حامياً للأقليات وهكذا أسس لدولة ليست لجميع أبنائها ,إنما دولة الأمتيازات للفئات والزعامات الموالية له من كل المكونات السورية وحوّل بقية السوريين إلى فئات تعيش قرب بعضها ولا يجمعها الا الخوف من الدولة الاستبدادية ومن بعضها بعضاً، وتم سحق كل محاولة لقيام معارضة علمانية تحررية تعمل من أجل التخلص من حالة الانتماء ما قبل الوطنية، ودمر كل حراك مدني يدعو لدولة المواطنة.
بقيام ثورة آذار 2011 إنطلق شعار عبركل جغرافية سوريا يقول ” الشعب السوري واحد ” وهذا أرعب الحكم الاستبدادي فسارع إلى اتهام الحراك المدني السلمي بأنه حركة تمرد جماعات سلفية تكفيرية موجهاً ضد الأقليات وقام بارتكاب الكثير من المجازر على أسس طائفية , وكرس ماكينته الأعلامية لإظهار الثورة السورية بانها ثورة طائفية قام بها السنة ضد الأقليات (وخاصة الأقلية العلوية) وأطلق العديد من قيادات التطرف الجهادي التكفيري من السجون وهو يعلم بأنهم سيقومون بإنشاء جماعات متطرفة مسلحة تقاتل من أجل تحقيق ايديولوجيتها بانشاء دولة اسلامية لا مكان فيها لمن لا ينتمي لعقيدتها، وأنشأ ما يسمى بقوات الدفاع الوطني ذات الأساس الطائفي وهي التي ارتكبت الكثير من المجازر بحق مجموعات مدنية سنية ليؤجج بذلك الصراع الطائفي الكامن وليفتحه على اوسع ابوابه.
كل ذلك ساعد على سرعة ظهور وانتشار الجماعات المتطرفة وتكاثرها فازداد انقسام المكونات السورية وتشظيها وتفتتها حتى اصبحنا اليوم أمام سنة موالية للحكم الأسدي , وسنة معارضة له ,وسنة متطرفة جهادية , وعلويون موالون وعلويين معارضون ,اكراد موالون واكراد معارضون وهذا ينطبق على باقي المكونات السورية ومما ساعد على ذلك التصارع الطائفي ما يلي :
1- اصرار الحكم الاستبدادي ونخبته الأمنية والعسكرية والدينية والاقتصادية على الاحتفاظ بالسلطة والثروة وعدم التنازل ولو عن أجزاء صغيرة من تلك الامتيازات.
2- صعود خطاب اسلامي تكفيري متطرف يتعامل مع الأقليات على أساس هويتها وعقيدتها وليس على أساس موقفها السياسي ويدعو لاستتابتها وقتلها.
3- الخوف من الفوضى وغياب سلطة الدولة في ظل مجتمع تحكمه الولاءات الماقبل وطنية
4- خوف العلويين وبقية الطوائف والمذاهب من الاضطهاد والقتل بسبب ردة الفعل على وحشية النظام وإجرامه بحق الأكثرية السنية
5- عدم امتلاك المعارضة والثورة لآليات جاذبة للأقليات كي تشارك بفاعلية بالعمل معاً على اسقاط النظام الاستبدادي مع غياب نظام وطني مدني ومساواتي.
6- نجاح النظام يربط مصير العلويين بمصير رأس النظام بعد ظهور الجماعات التكفيرية وسيطرتها على مساحات واسعة من سورية والداعية لقتل كل الأقليات السورية التي يعتبرونها مرتدة ويجب قتالهم .
7- عدم قدرة الجماعات العلوية وغيرها من الأقليات الموالية للثورة على المشاركة الفعالة بالثورة في المرحلة السلمية وسبب ذلك يعود للتغييب الاعلامي بسبب نقص التمويل وعدم القدرة على التواصل داخل الطوائف بسبب الخوف والرعب اللذين زرعهما النظام من خلال الموالين له من أبناء تلك الطوائف ثم تجاهل مؤسسات الثورة الاولى والمعارضة لحراك العلويين وغيرهم من أبناء الأقليات .
8- تنامي الصوت السني المتطرف ووتسييده إعلامياً على خطاب الثورة بعد ظهور وتنامي داعش والنصرة واخواتها وتغطيته على الصوت السني المعتدل .
نتائج تنامي الصراع الطائفي في سورية :
- ضعف صوت الحاضنة الشعبية للثورة عند كل المكونات .
- ضعف وتدهور قوة الجيش الحر وعدم قدرته على العمل ضمن مشروع وطني تحرري موحد .
- تهديد مصير الاقليات ووجودها وصعوبة اندماجها الوطني من جراء تنامي التطرف التكفيري السني والشيعي رغم عدم مشاركته للشعب بثورته وبشعاراتها في الحرية والكرامة والدولة المدنية الديمقراطية.
- تقسيم سورية الى عدة مناطق متصارعة على أسس مذهبية وعرقية.
إن تيار الغد السوري يرى أنه لابد للقوى السياسية السورية الوطنية والديمقراطية كافة ومنظمات المجتمع المدني وكافة نخبه من العمل على إنتاج عقد اجتماعي جديد والانتقال بالمجتمع السوري من حالة الانتماءات الطائفية والعشائرية والدينية والعرقية إلى الانتماء الوطني المؤمن بدولة واحدة وشعب واحد .
إننا نرى أنه يجب العمل على مواجه الطائفية وتناميها والحد من صراعاتها البدء بانشاء هوية وطنية جامعة من خلال ما يلي :
1- التصدي للمشاريع والثقافة الطائفية وخطابها من خلال فتح الملفات التاريخية والاجتماعية المغلقة وتهيئة المجتمع للدخول بمصارحة تاريخية تهدف لوضع كل التاريخ الأسود وطغيانه وعوامله على طاولة البحث وقيام حوار ثقافي شامل من المكونات السورية في إطار الحريات التي يكفلها الدستور بسلطة تداولية ومؤسسات مدنية وقوانين حديثة تضع الدستور والوطن فوق الأيديولوجيا والمعتقد
2- نشر ثقافة المواطنة وحقوق الإنسانية ومفاهيم المساواة والعدالة عبر برامج ومشاريع واستراتيجيات إعلامية وتربوية والتسامي على جراح الماضي والتخلص من ثقافة الانتقام وترك المحاسبة للقانون ومبادئ العدالة الانتقالية ونشر ثقافة السلم الاهلي .
3- مساعدة مكونات المجتمع على الانفتاح على بعضها والتعرف على ثقافاتها وعاداتها وقيمها، وتعزيز نشر الإرث الثقافي الانساني لكل المكونات ليشكل عامل تقارب وإغناء لوحدة المجتمع السوري القادم .
4- قراءة تاريخ المنطقة قراءة نقدية للخروج من كهوفه وزواياه المعتمة وحفره ليكون ذلك مقدمة من أجل التقارب ووحدة الرؤية للتاريخ، ليصبح تاريخاً مشتركاً بدلاً من أن يكون إرثاً للثأر والحروب التي لا تبني ولا توحد .
5- التخلص من النظام الاستبدادي وثقافته المبنية على تصارع الهويات ليبقى هو السيد والمتحكم بكل مقدرات البلاد والعمل على التخلص من ثقافة الهويات المتعادية وارساء هوية عصرية واحدة هي هوية المواطنة القائمة على المساواة الكاملة بين السوريين ودون تصنيفهم حسب عقيدتهم وعرقهم ومذهبهم.
6- الإيمان بحقوق كافة المكونات في نشر ثقافتها والتعلم بلغتها وإدارة شؤونها المدنية والادارية ضمن اعتبار سورية وطناً لكل السوريين وغير قابل للتجزئة والتقسيم و في هذا مصلحة عليا ومنفعة مباشرة لكل سوري . هذه المنفعة ستحدد في إطار ديناميكة جديدة تقول بأن الصيغة السابقة للدولة السورية لم تعد قادرة على الاستجابة لتطلعات وخصوصيات مكونات المجتمع السوري .