د. محمد خالد الشاكر
نجح ديمستورا في اقناع الأطراف السورية في السفر إلى جنيف 3 دون أنْ يجلسهم مع بعضهم، كما نجح في دفع المنظمة الدولية لاستصدار القرار 2254 الذي يتلائم وسيكولوجية العقم والجمود بين الطرفين، حين تضمن القرار صيغة غريبة مؤداها ” وقف الأعمال العدائية” بديلاً عن وقف إطلاق النار، الأمر الذي يعتبر تهديداً لطرفي التفاوض بالعودة إلى القتال، فيما لو فشل التفاوض. وهي الفرضية التي ستعاضم خسائر الطرفين، إلى الحد الذي يهدد بمحو سوريا.
يدرك ديمستورا الخبير في الصراعات الداخلية، أنْ لاحل بدون جلوس جميع الأطراف على الطاولة، كما يدرك أنْ لاحل أيضاً مع احتكار التفاوض لطرف دون آخر، وأنّ المرحلة الحالية لاتتحمل الإفصاح عن مشاركة معارضي موسكو والقاهرة.
دفع ديمستورا بصيغة القرار 2254، مدركاً أنّ الصيغة القانونية للقرار لاتشي إلا باختبار إرادة الطرفين في الحل السياسي، الذي لايمكن أنْ يحققه القرار، بقدر مايحقق إمكانية تمترس جميع الأطراف في المكان، وهو ماظهرت بوادره منذ الإعلان عما سمي بـ”اتحاد الشمال” الذي أعلنه الأكراد مؤخراً، الإعلان الذي سيجر إلى اتحادات وربما تقسيمات يفرزها الواقع على الأرض، في حال فشل المفاوضات.
هذه هي رسالة ديمستورا التي بعثها من خلال القرار الأممي 2254، وهذا ما أراد أنْ يقوله للأطراف السورية دون أنْ يصرح لهم بذلك.
ساق وفد النظام معه مجموعة كبيرة من أساتذة القانون، كما سمى وفد الهيئة العليا للتفاوض كبيريهم من المفاوضين، وكبيريهم من المستشارين الدبلوماسيين، مايفترض دراية الجميع بمندرجات القرار وحيثياته، كما درايتهم بأنّ ما يسوق له ديمستورا أقل من عملية تفاوضية فعلية تمهد لحل سياسي بالطريقة التي يريدها كل طرف.
وبالرغم من ذلك فقد سار الطرفان إلى جنيف3، مع يقينهما أنهما سائران إلى منصات إعلامية، لاتخرج عن مطالبة النظام كبير المفاوضين من “جيش الإسلام” بـ”حلق لحيته”، كما لاتخرج عن قناعة وفد الهيئة العليا للتفاوض بأنها الممثل الحصري والوحيد للمعارضة، وهي القناعات التي يتمترس بها الطرفان ” المتفاوضان”، دون قناعة ديمستورا وكيري ولافروف بذلك.
قناعات يدرك من خلالها ديمستورا، بأنها لاتقدم للسوريين سوى “فشة خلق” يتنفس منها الطرفان المتفاوضان، في الوقت الذي لم يعد فيه لدى السوريين أنفاساً يلتقطونها.
يقبض ديمستورا على جمر صبره لجر المتفاوضين إلى طاولة التفاوض، محاولاً مغازلة وفد الهيئة العليا للمفاوضات، والإيماء له بأنه الوفد الوحيد الذي يمثل المعارضة، علماً أنّ قناعاته تسير بخلاف ذلك.
أراد ديمستورا أنْ يخرج البحصة التي في بطنه، منذ تهديده طرفي التفاوض بإحالة الملف إلى الدولتين العظميين (أمريكا وروسيا) المتفاهمتين تماماً في سوريا، وبالتحديد في ملف الإرهاب، وهو ماحصل بالفعل نهاية الجولة التفاوضية الأخيرة، مايعني أنّ ” طبخة” جديدة، ستنضج على نار هادئة من التفاهم الأمريكي – الروسي.
بالرغم من أنّ الموقعين على اجتماع الرياض، حددوا شكل سوريا كدولة مدنية تعددية، إلا أنّ مايعرفه القاصي والداني، أنّ الولايات المتحدة وروسيا، متفقتان من تحت الطاولة، بشأن إشكالية ممثل “جيش الإسلام” ككبير للمفاوضين، إذ تنظر الدولتان الأعظم بعين الريبة والشك لكل مكون إسلامي أفرزته الحرب السورية.
قناعات الولايات والمتحدة وروسيا تنطلق من عدم الثقة المطلقة بجميع أشكال الحركات الجهادية الإسلامية، بما فيها وجود حزب الله في سوريا والميليشيات الطائفية الإيرانية، كما قناعتهما المطلقة بدخول سوريا –في مراحل مابعد الأسد- بدوامة جديدة من صراعات أخرى، لتحديد شكل الحكم وتقاسمه، بين المجموعات الجهادية وقوى المعارضة المدنية، مايعني العودة من جديد إلى المربع الأول.
على هذا الأساس تبدو الأولوية الروسية بتصفية كل ماهو إسلاموي، تخوفاً من خسارتها لآخر موطئ قدم لها في المياه الدافئة، وتخوفاً من تكرار السيناريو العراقي، حين نجحت إيران في صناعة الفوضى في العراق عن طريق الميليشيات الطائفية، بما فيها القاعدة التي صنعتها، ماساعد الدولة الدينية (إيران) بالاستحواذ على الملف العراقي، وتقويض الوجود الأمريكي ذاته.
أمام ذلك، كان لابد من انفراجات على صعيد القوى المؤثرة، تزامناً مع دخول السوريين إلى سنة سادسة من حرب مروعة، أصبحت عاراً على جبين الإنسانية جمعاء.
يخطأ من يظن أنّ الانسحاب الروسي كان مجرد خطوة مجانية من طرف واحد، إذ لا شيء مجاناً في القاموس السياسي.
من هنا يبدو أنّ ثمة تناغمات سعودية – روسية تصب نحو انفراجات تحقق حلحلة للمعادلة الصفرية بين الأطراف السورية من جهة، كما تحقق الرغبة الروسية السعودية في إضعاف الدور الإيراني وإخراج حزب الله من المعادلة.
إذاً، استجابة روسية بالانسحاب الجزئي من سورية، قد يقابلها استجابة سعودية بتوسيع وفد المعارضة، وإلا لماذا اجتمع ديمستورا مع وفد معارض مقرب من روسيا الأسبوع الماضي؟.
باختصار: لا أحد من أطراف جنيف يعرف حتى الآن مالذي يقدمه للآخر، كبديهية من بديهيات التفاوض، إلا أنّ الحقيقة الوحيدة الماثلة للعيان، والتي يجب أنْ يدركها النظام ووفد الهيئة العليا للتفاوض، أنّ مايجري في سورية الآن، ما هو إلا صراع دولي، استطاع في السنوات الخمس الماضية أنْ يحقق إحراق سورية من الداخل، ألا أنّ تداعياته مع دخوله سنته السادسة، بدأت تهدد بإحراق القوى الفاعلة نفسها، سواء داخل الإقليم أوخارجه، ولهذا أصبح الحل التفاوضي لايتسق و الطريقة التي يريدها طرفي جنيف3.
صراعٌ أكبر بكثير من توازن الضعف الذي يتقاسمه طرفي النظام والمعارضة، اللذان مازالا يدوران في دوامة الاستعصاء، الذي أورثته ” أسلمة ” الثورة السورية من المجلس الوطني إلى الهيئة العليا للمفاوضات.
استعصاءٌ وضع الطرفين – رغماً عنهما- أمام انتظار ماستؤول إليه اللقاءات الأمريكية- الروسية، بشأن تعميق التفاهمات في سورية، التي لم تعد تحتمل – حسب قناعات ديمستورا ولافروف وكيري- سيكولوجيات عقيمة ولا واقعية، تدور في فلك “حلق اللحى” و ” والاستئثار بالمعارضة”.