الخروج من فخ الأسلمة في مواجهة ” النظام ” و داعش وأخواتها ورعاتهم الإقليمين
جاء المؤتمر التأسيسي لـ” تيار الغد السوري” من القاهرة ، كمحاولة لتشكيل وعي جمعي سوري، يخرج من عقلية التفكير السياسي الدوغماتي، القائم على الجمود الفكري، والتشدد في الاعتقاد المتعصب لفكرة واحدة غير قابلة للنقاش.
الجمود والاستعصاء والدوغماتية ذاتها، عوامل وسمت الحالة السورية منذ خمس سنوات بعقلية أورثتها ممارسات النظام، كما أورثتها ممارسات المعارضة، التي وقعت بفخ الأسلمة الذي نصبه لها النظام السوري، ماطبع ممارسات المعارضة السورية بالتشظي واللا واقعية واللامعقول، فأصبحت الحالة السورية مرادفاً للإرهاب، الذي دفع العالم للتنكر عن مطالب السوريين .
تماهت الحالة السورية بنوع من التزاوج الخبيث بين فكرتي ” الأسلمة”، و ” الأقلمة” ، فدخلت في مهب تنظيمات دولية عابرة للوطنية، حالت دون تشكيل رؤية تتناسب وتطلعات السوريين في دولة مدنية تعددية، تؤمن بالمواطنة، وبدولة قانونية يخضع فيها الجميع حكاماُ ومحكومين تحت سقف القانون.
لهذا كله توجت ثلة من السوريين منهم المعارضين الذين تقطعت بهم السبل في إيجاد رؤية وطنية جامعة لوقف نزيف الدم السوري المتناثر بين دول إقليمية ودولية، همها الأول والأخير المتاجرة والاستثمار بالدم السوري، بدءً من الملف النووي الإيراني، وانتهاءً بأزمة تركيا مع الأكراد والاتحاد الأوروبي.
من هنا أصبح الدم السوري مسفوحاً على طاولة المساومات والصفقات الدولية والإقليمية، في نأي واضح عن المطالب التي خرج من أجلها السوريون منذ خمس سنوات، وقدموا في تضحيات سبيلها تضحيات قل مثيلها في التاريخ الإنساني.
لهذا كله، ضم التيار الجديد ” تيار الغد السوري” مجموعة من المعارضين والمثقفين والباحثين والتكنوقراط ، الذين تحسسوا خطر الأداء الذي سارت به المعارضة السورية منذ ” المجلس الوطني” 2011، الذي سيطرت عليه مجموعة من الإسلامويين، مايعكس منذ البداية عدم قدرة المعارضة على بناء دولة مدنية تعددية، طالما عنوانها العريض، إيديولوجيا إسلاموية لاتؤمن – كبديهية – بفكرة الوطنية الجامعة، في دولة مثل سورية تضم أكثر من أربعين طائفة وإثنية.
جاء ” تيار الغد السوري”، أبعد من حزب أو معارضة، وليؤسس لسورية، الدولة الحديثة التي تحترم حقوق الأفراد وحرياتهم العامة، وتلتزم في دستورها بالمواثيق الدولية والمبادئ الأساسية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
منذ بداية الحدث السوري، ظل أداء المعارضة السورية محكوماً بجملة من الاستقطابات الدولية والإقليمية، التي تشيير إلى عدم قدرة المعارضة على إحداث أي تغيير في بنية النظام السوري.
وعلى العكس من ذلك فقد سارت المعارضة السورية منذ تأسيس المجلس الوطني بعقلية اتسمت بوقوعها في فخ “الأسلمة”، الفخ الذي طالما اشتغلت عليه الدولة البوليسية في سورية، لإدخال القوى الإقليمية والدولية في صراع يحقق للنظام السير في سياسة شفير الهاوية وتعقيد الصراع؛ وبما يؤمن له اللعب على عامل الوقت، الذي استطاع من خلاله تحويل مطالب السوريين بدولة مدنية تعددية إلى صراع بدأ إقليمياً وانتهى دولياً. فتشظت مطالب السوريين منذ بروز مشروعين يتقاتلان على الأرض السورية أحدهما سني تدعمه تركيا من خلال “الإخوان المسلمين”، وآخر تدعمة إيران عبر حزب الله والميليشيات الطائفية القادمة من كل بقاع الأرض.
هكذا دخلت سورية في دوامة الاستعصاء، فتحولت إلى بؤرة للجهاديين والفوضى، التي باتت تهدد المنطقة والعالم، ولهذا أصبح الإرهاب بديلاً وحيداً لإسقاط النظام.
استطاع نظام الأسد إعادة تدوير العقلية التي يؤمن بها مُأسلمي المعارضة السورية، ليقنع العالم بفرضية المؤامرة الكونية، التي تقف وراءها قوى ظلامية من إرهابيي الإسلام الراديكالي المتطرف، وهوماحصل بالفعل، حين اشتغلت قوى إقليمية ووسائل إعلام داعمة للثورة بالترويج لأسلمة الثورة، مما أظهر الحراك السوري أمام الغرب، مجرد حرب طائفية ضد الأقليات، وهي الفكرة التي استفاد منها النظام أيضاً، ليقنع الأقليات للالتفاف حوله والاحتماء به.
من هذه النقطة بالذات، جاء ” تيار الغد السوري”، بعد أنْ أدار العالم ظهرة لتطلعات السوريين، في محاولة لإعادة تشكيل رؤية المجتمع الدولي بالوجه الحقيقي للسوريين وبناهم الفكرية والسياسية.
جاء ” تيار الغد السوري” ليرسم وجه سورية المدنية والتعددية والديمقراطية، وهو ماتضمنته المنطلقات السياسية للتيار التي نصت في أولى مبادئها ” أنّ تيار الغد السوري هو دعوة مفتوحة لكل السوريين من أجل التلاقي عند قواسم مشتركة تحترم حق الاختلاف، وتسعى إلى طرح تصور جماعي مقبول على أوسع نطاق، لما نعتقد أنه مستقبل سورية”.
على الصعيد الدولي، يحاول ” تيار الغد السوري” الولوج في عمق الواقعية السياسية كبديهية تتقدم أولويات أي عمل سياسي، في غاية مؤداها إخراج السوريين من موتهم العلني، من خلال دراسة وتحليل ماهو حتمي وقائم على الساحة الدولية، خصوصاً بعد التفاهم بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بشأن الملف السوري.
وفي خضم التداخلات والتعقيدات الإقليمية والدولية، ينطلق ” تيار الغد السوري” من أهمية تحليل الصراع في سورية كظاهرة سياسية في إطار النظرية الواقعية في العلاقات الدولية ومتغيراتها.
لهذ كله، وبعد خمس سنوات من معارضة لم تمتلك قوة ضغط على المجتمع الدولي، سوى نزيف الدم السوري ومشاهد الدمار والتشرد، يحاول” تيار الغد السوري ” وقف الاستثمار في هذا النزيف بالتأكيد على رؤيته السياسية، من خلال دراسة وفهم سلوكيات الدول، والعوامل المؤئرة في سياساتها، وبالتحديد سياسات القوة ومكامنها داخل القوى الفاعلة في المجتمع الدولي.
لا تتوقف الرؤية الاستراتيجية لـ ” تيار الغد السوري” عند الأخذ بالنظرية الواقعية القائمة على الاستفادة من مصادر القوة في المجتمع الدولي، إنما يتعداه للاخذ بالنظرية الليبرالية في العلاقات الدولية، وهو ماتضمنه البيان التأسيسي للتيار، فمعاني الحرية والحق في الاختلاف، التي تتمحور حول الفرد كقيمة، شكلت مقدمة الأولويات في التيار الوليد، حيث تندمج خصوصية الفرد، من دين ومذهب واعتقاد في إطار المكون السوري الواحد. ولهذا شاهدنا في المؤتمر التاسيسي للتيار جميع ممثلي الطوائف والإثنيات المكونة للطيف السوري.
باختصار: لقد ولد ” تيار الغد السوري” في القاهرة، بكل ما للقاهرة ودمشق من دلالات تاريخية.
انطلق ” تيار الغد السوري”، بأهداف ورؤى ومنطلقات سياسية، قادرة على إخراج السوريين من محاولات محوهم الثقافي والتاريخي، ما يضع التيار الجديد أمام استحقاقات قدرته على إفراغ النظرية في بنائها العملي.
نعتقد: أنّ المعارضة التي لاتعمل بعقلية الدولة، هي مجرد حالة من الانتحار السياسي.
مركز المزماة للدراسات والبحوث- دبي
29 مارس 2016
التعليقات
لايوجد تعليقات