من الواضح تماماً عدم جدية النظام بتقديم أي تنازلات حقيقية على طاولة المفاوضات المنعقدة في جينيف, بالمقابل إن ما تصرح به الهيئة العليا للمفاوضات هو أن لا مفاوضات إلا على رحيل الأسد وتشكيل ” هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة “.
ما لم تتحقق هذه النقطة بالنسبة لوفد المعارضة والتي لا بوادر لتحقيقها على المدى المنظور على الأقل سيكون انهيار هذه المفاوضات – التي لم تبدأ عملياً بعد – حتمياً.
لكن ما الذي يدفعنا للظن أن النظام مضطر لأن يقبل بمطالب المعارضة بالتنحي عن الحكم والقبول بهيئة حكم كاملة الصلاحيات ؟
بالحقيقة لو وضعت المعارضة السورية نفسها مكان النظام, لأدركت أنه ما من سبب سيدفع النظام لتقديم أي تنازل على طاولة المفاوضات, وفق الشروط السياسية والميدانية الحالية.
حيث أن المناخ السياسي الدولي والواقع العسكري والميداني على الأرض, لا يشي مطلقاً بإمكانية أن يقدم النظام أي تنازل.
فالنظام يحظى بدعم روسي إيراني ومن دول أخرى سياسيا وعسكريا وماديا بشكل منقطع النظير, وهذا الدعم الذي يلقاه النظام هو السبب الوحيد في بقائه أصلاً على رأس الحكم في سوريا حتى الآن, في حين أن المعارضة السياسية لا تتلقى أي دعم سياسي حقيقي من حلفائها الدوليين والإقليميين, وعلى الأرض يمنع عن قوات المعارضة كل الأسلحة النوعية والدعم, الذي يمكن أن يقلب الموازين العسكرية على الأرض لصالحها, لا بل وتترك قوات المعارضة لتتصدى للقاعدة المتغلغلة في صفوفها, و لداعش دون أي دعم يذكر, إلى جانب مواجهتها للنظام, ومواجهاتها حديثا لما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية, بقيادة حزب العمال الكوردستاني, الذي سيطر على مناطق واسعة على حسابها.
بالإضافة إلى أن المستجدات التي فرضتها الهدنة أو ما يسمى “وقف العمليات العدائية”, بين النظام والمعارضة تصب في مجملها لصالح النظام.
فعسكريا فشلت المعارضة حتى الآن استغلال هذه الهدنة في لملمة صفوفها وتنظيم قواتها عسكريا على الأرض حيث لم تستطع بعد التوافق على مشروع يؤهل لنهوض كيان عسكري قادر على مواجهة التداعيات المحتملة لانهيار عملية التفاوض أو حتى تداعيات استمرارها, على العكس تماما فلقد شهدت أسابيع الهدنة الماضية,وتحت شعار “توحيد الصفوف” ظهور عدة تجمعات عسكرية أخرى,لم تكن موجودة سابقاً وبالأصل هذه التجمعات العسكرية التي أعلنت عن نفسها خلال الاسابيع الماضية, هي عبارة عن فصائل أومجموعا ت غادرت تشكيلاتها العسكرية السابقة لتشكل كيانات عسكرية بمسميات جديدة, لا بل شهدت فترة الهدنة أيضاً العديد من النزاعات المسلحة بين فصائل عسكرية مختلفة في مختلف المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
والأهم أن المعارضة لم تستطع استغلال هذه الهدنة الهشة أصلا –والتي راح خلالها أكثر من خمسمئة إنسان سوري حتى الآن – بأن تحقق تقدما على جبهات تنظيم داعش, المتاح لها قتاله حاليا مستغلة الهدنة المفروضة مع النظام, لعلها توسع مساحة انتشارها الجغرافية على حساب التنظيم, ولكي تبرز إلى واجهة المفاوضات السياسية كقوة أساسية في مكافحة الإرهاب وليس كما يروج النظام لها.
في حين كانت هذه المهلة, التي تم تحديدها لبداية المفاوضات خير ملاذ للنظام, ليعيد ترتيب وانتشار قواته العسكرية وميليشياته المختلفة, ويزودها بكل ما يلزمها من الإمدادت اللوجستية والذخائر,وخصوصا في المناطق التي يصعب عليه الوصول إليها أثناء احتدام المعارك على مختلف الجبهات .
من ناحية أخرى استطاع النظام تحقيق انتصار كبير جداً, على داعش باستعداته لتدمر ليقدم نفسه كأمل وحيد للعالم كله لمكافحة الإرهاب, من خلال استعادته لأهم المدن الأثرية العالمية “تدمر” التي كان قد سلمها للتنظيم قبل أشهر .
على الصعيد السياسي يمكننا بكل ثقة أن نقول أن ما ذهب من أجله الوفد المفاوض لم يتحقق حتى الآن على الأقل, ولم تنجح المعارضة في تحقيق أي مكسب على الصعيد السياسي – ربما لا يكون الأمر بيدها في هذا الخصوص- لكن النتيجة هي أنها لم تحقق أي مكاسب على طاولة المفاوضات, من ناحية أخرى كان من المتوقع أن نرى مزيدا من الإنسجام والتوافق بين مختلف قوى المعارضة – وخصوصا بين القوى المشاركة في مؤتمر الرياض –على اعتبارها توافقت على تشكيل هيئة تفاوضية عليا وتبنت المسار السياسي, وعلى رأسها الإئتلاف الوطني السوري, الذي لم يواكب عملية التفاوض منذ بدايتها سوى بمزيد من الإنقسامات الداخلية ومزيد من التخبط.
إعلامياً لا زال إعلام المعارضة يعاني من نفس الإنقسامات والتجاذبات, التي تعاني منها القوى السياسية. حيث أن كل وسيلة إعلامية تمولها شخصية أو كتلة سياسية معينة, وتكون تلك الوسيلة الإعلامية محكومة تماماً بالأجندة الخاصة لذلك الطرف الممول,بالتالي لم تستطع كل وسائل إعلام المعارضة على كثرتها وعلى كثرة المتحدثين إلى وسائل الإعلام العربية والدولية المختلفة من خلالها, أن تخلق خطابا إعلامياَ منسجماً وموضوعيا يحاكي عملية التفاوض,حيث لا تزال وسائل إعلام المعارضة وشخصياتها منهمكين في كيل الإتهامات لبعضهم البعض, وإطلاق الإشاعات والتهم كيفما اتفق, بالإضافة للكم الكبير من التصريحات المتناقضة حول مسار عملية التفاوض, الذي نتابعه على ألسنة أقطاب المعارضة السياسية, التي يفترض أنها توافقت على مسار العملية التفاوضية في مؤتمر الرياض.
من جانب آخر إن القصف والدمار الذي لا زالت تتعرض له البلاد والموت اليومي الذي يشهده السوريين – ولو أن نسبة الموت والقصف قد انحسرت كثيرا أثناء الهدنة – واستمرار هجرة السوريين بين محافظات الداخل وخارج سوريا, والتخوفات المطروحة حيال التقسيم أو ما يشبه ذلك, والواقع المعاشي والصحي المتدهور جدا للسوريين حتى في مناطق سيطرة النظام يشكل أوراق ضغط إضافية على كاهل المعارضة وليس النظام خلال عملية التفاوض.
هنا لا بد من الإشارة إلى الناحية الإيجابية الوحيدة التي حققتها الهدنة التي فرضتها عملية التفاوض المرتقبة, وهي عودة الحراك السلمي إلى شوارع وساحات الكثير من المدن في سوريا, لكن الجدير بالذكر أن عودة هذا الحراك السلمي والشعارات الواعية, التي يطرحها الثوار بالشارع ليس له أي علاقة أو ارتباط مع المعارضة السياسية ولم تعمل المعارضة السياسية بأي وسيلة من الوسائل على التفاعل معه أو مواكبته و زيادة زخمه أو توجيه شعاراته وتوسيع نطاقه .
بالحقيقة إن أسباب تحقيق أي مكسب لأي طرف من الأطراف على طاولة المفاوضات, هو ما يملكه من قوة وأدوات يستطيع أن يحركهاويستثمرها على الأرض .
بالتالي إن استمرار الهدنة وفق هذا الأداء المرتبك على كل الأصعدة للمعارضة يصب حتما لصالح النظام يوما بعد آخر, والذي يبدو أنه يستغلها أفضل استغلال لتحسين شروطه التفاوضية ولتوسعة نفوذه على الأرض .
وهنا تبرز أهمية تخلي قوى المعارضة عن إلقاء الشعارات والخطب الجوفاء, الغير مستندة على أي برامج عمل واقعية لتحقيقها, وتبرزضرورة وجود استراتيجة عمل شامل ترتكز عليها المعارضة السياسية, ضمن برنامج عمل وطني تشترك وتلتزم فيه كل القوى والأطراف, لخلق واقع سياسي جديد يمكنها من تحقيق مطالبها على طاولة التفاوض, إن كان في جينيف أو في مراحل تفاوضية قادمة, لأنه وبالشروط الحالية تصبح مطالب المعارضة السورية في تشكيل هيئة حكم إنتقالي ذات صلاحيات تنفيذية كاملة ضربا من ضروب الوهم والخيال .
محمد قنطار – عضو الأمانة العامة في تيار الغد السوري
التعليقات
لايوجد تعليقات