ازدادت في الآونة الأخيرة حملات التخوين والتشويه والتكفير بين مكونات العمل الثوري؛ حتى اختفت بينهم أخلاقيات النبل الثوري؛ واستطاعت قوى مشبوهة تعمل في الخفاء استغلالَ أطراف ثورية لتشوه هذا الشخص أو ذاك المكون أو ذلك التيار؛ فغاب الوعي الوطني وقلّ النبل الثوري؟.
تمثل حالة الاختلاف والتنابذ بين القوى الوطنية السورية مع بعضها بعضاً؛ تمثل دورَ المعرقل والمعوق في قيادة الثورة للوصول بها نحو أهدافها؛ ولذلك لم تستطع حتى اللحظة انتاج مشروع سياسي وطني، مما جعلها تبدو غير صالحة لقيادة المشروع الثوري، ولا قادرة على بناء سوريا المستقبل.
إضافة إلى ما سبق؛ لم يعد الشارع الثوري يثق كثيراً بالنخبالسياسية للثورة؟ وهو محق في ذلك؛ لأن الأداء السياسي الثوري كان مخجلاً؛ ولم يرتقِ إلى مستوى تضحيات الشعب السوري الكبيرة؛ كما أن العديد من القوى السياسية؛ انشغلت بخلافاتها مع المعارضالآخر؛ وبدتْ تنظر إلى سوريا كما لو أنها كعكة؛ يريد كل فريق الحصول على الحصة الأكبر منها! وهذا ما يجعل النظرة إليها نظرة شك من قبل الشارع الذي عانى كثيراً خلال سنوات الثورة الماضية؟!.
ولكن لماذا نحتاج ميثاق شرف وطني؟.
إن حاجة الثورة السورية وثوارها وقواها السياسية والمدنية لميثاق شرف وطني؛ باتت ملحة وضرورية، ليكون ناظماً لعمل القوىالسياسية؛ وضابطاً سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً ووطنياً لها، وعنوانتفاهمها المفتوح لجميع القوى والفعاليات الأخرى الملتزمة به، بما يسهمفي تحقيق أهداف الثورة التي دفع من خلالها مجتمعنا ثمناً غالياً لتجسيدها.
كما أن ميثاق الشرف وثيقة توافقية؛ تنطلق من روحية الشعب السوري وحضارته، وتنوّعه، وخصائصه، وأخلاقية ثورته؛ وتسعى لتكريس ثقافة التشاركية والوحدة الوطنية التي عاشها أبناء سورية عبر تاريخهم بكل مكوناتهم الفكرية والسياسية والدينية والأثنية والمذهبية، وبما يعزز أسس الطمأنينة لمستقبلهم في وطن يحترم حقوق مواطنيه وانتماءاتهم بكل تنوعاتها.
إن الثورة التي قامت من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ضد استبداد ألغى حقوق الجميع؛ واضطهد الجميع؛ وهدر كرامتهم؛ لايمكن أن تمارس سلوكاً استبدادياً أو استئصالياً ضد أحد من أبناء الوطن؛ ومن أساء وأجرم؛ فالقضاء العادل هو محل محاسبته.
ولكن: لنتوقف مع مفهوم ميثاق الشرف تاريخياً:
ميثاق الشرف هو مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي من الممكن أن تتحول إلى مواد دستورية؛ تنبثق عنها مواد قانونية تحكم سلوكية المجتمع، وميثاق الشرف يقوم على الاعتقاد بان أفراد المجتمع يمكن الوثوق بهم؛ ليتصرفوا بأخلاقية الميثاق الذي يوقعون عليه.
وأول مرة عرف من خلالها هذا المصطلح في الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال اعتماد مراقبة الطلاب لأنفسهم في عام 1779 بتوصية من محافظ ولاية فيرجينيا في ذلك الحين “ثوماس جيفيرسون” الذي تخرج بتفوّق من نفس الجامعة في عام 1762 وقّع على نظام شرف مبدئي لكليّته.
اقترح جيفيرسون لاحقا نظام شرف مماثل لجامعة فيرجينيا التابعة له؛ وكان ذلك أول نظام يعتمد على قوانين صارمة تحد من سلوك الطلاب، ثم أصبح يعتمد لاحقا على الرقابة الذاتية لدى الطلاب، وقد اعتمدت جامعة “برينستون” أيضا نظام الشرف الذي يديره الطلاب بالكامل منذ بدايته في عام 1893، وغالباً ما يستخدم ميثاق الشرف في أمريكا لمواجهة الخيانة الأكاديمية.
كذلك يمكن القول بأن الإعلان العالمي لحقوق الانسان ميثاق شرف، وقعت عليه عديد الدول؛ إلا أن الالتزام به يختلف من دولة إلى أخرى، ناهيك أن الأنظمة المستبدة؛ ترفعه شعاراً ولكنها تخرقه مع مواطنيها كل لحظة.
العرب وميثاق الشرف:
عرف العرب مثل هذه المفاهيم ـ إنْ صحت المقاربة ـ في حلف الفضول بالجاهلية؛ الذي تضمن مكارم الأخلاق والالتزام بحماية الضعفاء والاتحاد في مواجهة الظلم، وكان ذلك بعد حرب الفجار بأربعة أشهر، وسببه أن رجلا من زبيد (بلد باليمن) قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعان عليه الزبيدي بأشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة، فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك.
ثم اجتمع بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهر ذي القعدة، إذ وقعوا ميثاقاً؛ تحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وأبرموا هذا الحلف، الذي سمي بحلف الفضول لأن منقام به كان في أسمائهم الفضل، كالفضل بن الحارث، والفضل بنوداعة، والفضل بن فضالة؛ وعن ذلك الحلف قال الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضولَ تعاقدوا وتحالفوا ألا يقيمَ ببطنِ مكةَظالـــمُ
أمرٌ عليه تعاقــدوا وتواثقــوا فالجارُ والمُعترُّ فيهم سالمُ
إن حلف الفضول كان ميثاقاً أخلاقياً تنادت فيه المشاعر الإنسانية لنصرة المظلوم، والدفاع عن الحق، ويعتبر من مفاخر العرب قبل الإسلام، حتى أنَّ رسول الله قال عنه: ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دُعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.
أما في الإسلام فكانت صحيفة المدينة؛ التي لاتزال موضوع بحث عددمن المحدثين وبخاصة المستشرقين. منهم (لين بول) و(ولهة وزن)و(كايتني موللر) وآخرون.
وأحدث الدراسات عنها ما كتبه (آربري) ” الدين في المشرق الاوسط ” ( كمبرج21/3-21) و(سارجنت) في مجلة الإسلام (8/1-2/3-6) وفيبحثه ” السنة الجامعة” المنشور في مجلة مدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن سنة 1972ثم نشر (جل) بحثاً عنها في ” الحولياتاليهودية ” سنة 1974.
عالجت الصحيفة قضايا تنظيمية إدارية، ولم تمس العقيدة والدين، وأما الموقعون عليها فهم المؤمنون (المهاجرين والأنصار) والعرب غير المؤمنين واليهود إضافة لكل من والى أي طرف من الأطراف الثلاثة.
وأما أهم ما تضمنته صحيفة المدينة يتمثل بحرية الاعتقاد في الإسلام واستقلال الذمة المالية والتعاون في حماية الوطن حالة الحرب والعدل التام والتعاون والتناصح وحفظ الوطن.
وبعد:
فإننا نرى بأن فرقاء الثورة السورية بحاجة ماسة لميثاق شرف وطني؛ ليتفقوا فيه على أساسيات العمل الوطني إنْ في الحراك السياسي أوالعسكري أوالإعلامي، وإنْ في سوريا المستقبل.
من هنا نرى أنَّ هذا الميثاق يجب أن لا يغفل العيش المشترك بين السوريين؛ والالتزام بأهداف الثورة حتى إسقاط النظام بكافة رموزه ومرتكزاته الاستبدادية وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، كما يجب أن يضمن حرية التفكير والتعبير والإبداع لكل المواطنين فيالدستور المتوافق عليه؛ ورفض ادعاء احتكار السلطة من أي جهة أوطرف.
مع التأكيد على أن سوريا وطن واحد لكل مواطنيها. ولهذا يجب أن ينص ميثاق الشرف بكل وضوح على محاربة النزعات والدعوات والمحاولات التقسيمية أياً يكن شكلها، ومضمونها.
مع الاعتراف بأن أبناء الوطن كلهم متساوون في الحقوق والواجبات؛ فلا يحق لجماعة أو طائفة أو حزب الاستفراد بالقرار الوطني تحت أية ذريعة كانت.
ووجوب العمل على حماية المواطنين على مختلف انتماءاتهم الفكرية والسياسية والقومية والدينية والمذهبية، وحماية أرواحهم وأملاكهم ومقدساتهم؛ وهذه ثقافة السوريين عبر تاريخهم.
ولا يجوز أن يُخَوَّن سياسي لرأيه ما دام ملتزماً بالثورة وأهدافها،ويجب الحفاظ على التراث الحضاري والثقافي.
وأنَّ الدم السوري على السوري حرام؛ والقضاء العادل محل أي نزاع.
والتأكيد على الطابع الوطني للثورة واستبعاد كافة المشاريع الطائفية والدينية والإيديولوجية.
فهل من الممكن إنجاز مثل هذا الميثاق؛ ليكون ناظماً وضابطاً للمسيرة الثورية؛ أم سيبقى كل فريق له قانونه وميثاقه؛ لتبقى الثورة السورية موزعة المصالح بين أبنائها.
أحمد الرمح: كاتب وباحث وعضو تيار الغد السوري.
التعليقات
لايوجد تعليقات