تأتي أهمية الديمقراطية من كونها فضاء للتعبير عن وجود فاعل، بمعنى أنها تسمح لنا بالتعبير عن أفكارنا وخططنا ومكنونات هواجسنا، ولا تدعي الديمقراطية الوصول للكمال، بالقدر الذي تكون مطواعة للتعامل معها، أي إنها لاتدعي المثالية في حل القضايا والمسائل، ولكنها تفتح ذراعيها للمحاسبة والنقد، حيث يمكن شراء أصواتها وذمتها، إلا أنها تعد بوضع ذلك أمام جمهورها ومؤسساتها وعشاقها بالوقت الذي يقررون اللجوء به للقانون والدستور، وبقدر ما تتمسك بمقولة “القانون لايحمي المغفلين”، فإنها بالوقت ذاته تمد لسانها لهذا المغفل بطريقة دراماتيكية.
الديمقراطية لاتدعي إنها من نصيب هواة السوق بل هي لكل من في السوق من النخاس للعبيد، ويمكن للكل الإحاطة بها وبذل الجهد لنموها وازدهارها، حيث لايمكن للديمقراطية أن تعيش دون تعدد، ولا ترفض طرفا ولا تقرب طرفا على طرف إلا بالقدر الذي يتعامل معها ومع إشكالاتها وشروطها والقبول بها، باعتبارها مناخ للجميع، فاز بها القوميون، أم الأشتراكيون، أم الإسلاميون، أم إتلاف أكثر من طرف.
ليس صحيحا أن الديمقراطية تعني التخلي عن المسألة الوطنية، كما ليس صحيحا أن كل من يصرخ ليل نهار عن الوطنية وفلسطين والعراق أنه الوطني الذي لايشق له غبار، والقضية ليست هواية نمارسها عند التمنطق وخداع النفس قبل الجماهير، القضية هي الحاجة والضرورة من أجل حياة أفضل أقل ما يتحقق بها هو الكرامة والحرية.
ندرك تماما ونؤكد على إن منطقتنا تواجه مشروعا خارجيا يعمل ليل نهار من أجل إيقاف نهضتها وتركها نهبا لأطماعه ومشاريعه، وهذا ليس وليد اليوم، بل إنه قديم تطالعنا لعناته من ستين عاما على عمر نكبة فلسطين وأربعين عاما على هزيمة حزيران، ولكن من الذي آبد هذه الهزيمة ومدد هذا المشروع ليحتل العراق ويقضم فلسطين ويهدد سوريا ولبنان، أليس أنظمة القمع والاستبداد وممانعة أن تكون أوطانها منيعة وسليمة، أليس من يلغي المواطن والقانون يمهد الطريق لكل المشاريع التي تتقدم وتتأخر من حولنا، أليس من يحتكر التفكير والرأي والأعلام والصحافة والمقاومة والممانعة والوطن والمواطنين هو الخطر الأساسي على الوطن ووحدته الوطنية وسيادته واستقلاله؟!.
فالخطر الخارجي القابع منذ عقود في المنطقة ويتمدد ويتطاول، يوازيه بل يفوقه خطورة من يلغينا ويشل كل قدراتنا، هما خطران لا خطر واحد، خطر يخطط ويناور بل يقدم للخطر الآخر المغريات، يتوّجهم خطر ثالث هو الواقع الاجتماعي الذي فرضه الاستبداد وإثارة مجمل الثقافات التي تشوه المواطن وتعمم الفساد حيث هيأ مناخ وحوافز من أجل استعبادنا واسترقاقنا، خطر يناور وبيده حريتنا وكرامتنا وأرضنا أوراقا للبيع على مذبح استقرار سجنه وقمعه وقصره.
الاستبداد يصرخ ويكرر صبح مساء عن الخطر الخارجي والمؤامرة الخارجية، ولكنه يمسك بكل الأسلحة لمقاومة هذا الخطر ويضعها بخزائنه ويصادرها، من الحرية للوحدة الوطنية.. لهذا لم تستوعب النخب والمعارضة، قراءة واقع مجتمعاتها، ولا مجمل الحفر الآسنة التي حفرها الاستبداد، ولم تعي الواقع دوليا وأقليميا بل مارست الديمقراطية دون حاضنة ودون تحصين يمكن ضبطها وإيقاعها وتوجه بوصلتها كحالة حداثية لا تستقيم إلا ببناء مؤسساتها، وحقنها بثقافتها.
لهذا يجب تفهم الديمقراطية، بهذه الحالة من التخلف ورد الفعل كمهمة مطروحة لا تتحقق إلا بإنجاز مؤسساتها ودخول روحها، وهذا يتطلب تحديد تخومها وإشاعة ثقافتها، شرط أين يكون الإنسان ومستقبل حريته وكرامته أساسها، وهذا لن يكون إلا بالقضاء على البنى القائمة، وثقافة البنى القائمة، لهذا تتداخل الأمور، ولكن يجب أن نعي أن ما يطفو على سطح الواقع، وهذه البنى ماقبل حداثية هي نتيجة منطقية للنظام القائم باعتباره منتج لكل ما هو خارج الحداثة والحرية والثقافة الحداثية، وهي المناخ الأساس للديمقراطية.
لهذا يجب تفهم الديمقراطية على أنها مهمة ملقاة على برنامج الثورة ببناء المؤسسات، وإلغاء العنف بالواقع وتحويله لصراع برامج، هذه البرامج التي تتنافس على المصلحة العامة بالتنمية البشرية والثقافية والاقتصادية.. وليست هرطقات ومماحكات واجترار مصطلحات.
زكريا الصقال عضو الأمانة العامة لتيار الغد السوري