بدخول الثورة السورية عامها السادس، علينا كلنا أن نقف مع أنفسنا قليلا، وعلى المعارضة التي أصبحت عبئاً على الثورة أن تقف أو توقّف.
لم يرد الشعب السوري من ثورته إلا أن يخلص من عبء هزيمة طال أمدها. منذ ما سمي عهد الاستقلال والشعب العربي عموماً يهزم وتتقهقر بناه، بحيث وصل إلى مرحلة الإستباحة، وما كان لهذه الهزيمة أن تتم لو قدر لإنسانه أن يتمتع بشيء من الحرية والكرامة.
فقد قدر لهذا المواطن أن تتسلط عليه أنظمة فاجرة، أنظمة أدركت مصالحها في أن تكون مرتبطة ووكيل لهذا الغرب وأمريكا، تسهل له سرقة ونهب خيرات المنطقة مقابل أن تسيطر على هذه المساحات وتستغل كل شيء وتحويل مجمل المواطنين لعبيد مرابعين لدى هذه السلطات الغاشمة، حيث لا يمكن تمرير الهزائم والسرقات والنهب إلا بتشويه كل شيء وإفساد كل شيء، ولهذا درجت هذه الأنظمة على سياسة السحق والترهيب والترغيب، سياسة شراء الذمم والضمائر، وضرب العرى الاجتماعية لدرجة ساد الشيطان وتغلغل فسادا وتخريبا وتشويها لكل شيء.
أجهض عصر الثورات، عصر الجماهير الثائرة والزاحفة، مسخت حركات التحرر، اشتري الكُتَّاب وقزمت الأقلام. السجن والمعتقل لكل شريف، وكثر من باعوا أنفسهم مقابل المكتب والسيارة والتهريج والتبريج لهؤلاء الحكام. بمعنى أصبح رغيف الخبز مجهول الصنع وحاجة لسد الأفواه، حاجة ممكنة مع الصمت أو التصفيق للهزيمة وصانعيها، وبقدر تبرير هذه الهزائم ودفع مواجهتها للمجهول كان الدفع والإستيلاء على المناصب والنفوذ.
الكفاءات مهمشة مهجرة ممزقة.. نجح منطق السوق والتسليع لكل شيء، منطق أودى بالجدران والأوطان.. سقط الفيل السوفييتي أمام قطعة همبرغر وبنطال من الجينز، انفلتت الشياطين بكل الاتجاهات والغيلان الشرقية تحديدا في منطقتنا، ضرب الفساد أعتى الشروش، أطلق عالم الغيبيات، عالم الشعوذة والاتكال، عالم الفتوى لكل وبكل شيء، عالم مسخ الإنسان وتحويله لوحش مفترس، إنسان جشع وفاقد للقيم.
في منطقتنا كل شيء قابل للبيع، طالما أن الإنسان أصبح أرخص سلعة في عالم الاستبداد لهذا فكل شيء منخور وملوث.
جاء الربيع العربي ليدخل وهذه الصورة جاثمة وقائمة في وطننا العربي من محيطه لخليجه:
1 ـ لا مشروع تحرر تتداوله البشر، ولاطريق تتلمس به الخلاص.
2 ـ قوى شائخة، مستهلكة، تجتر خيباتها وذكرياتها.
3 ـ أنظمة أعلنت فجورها وصلفها جهارا نهارا، وقالت هل من مزيد.
4 ـ جماهير نهضت لا خبرة ولا تجربة تعينها، سحقها الذل والهوان والتهميش والفقر. جماهير لعنت قهرها وكفرت فجأة بكل شيء، بعدما أدركت ووجدت نفسها عارية فقيرة مسحوقة ومهانة، فهبت تقتحم السماء دون تردد.
باستطاعتنا القول إن “الربيع العربي” امتلك ويمتلك كل المقدمات والأسباب التي تصنع “ثورة”، ثورة تغلي من الغضب قادره على سحق مستبديها، ثورة تبني أوطانها من خلال استعادة إنسانها المهمش وشروط تأهيله أو المقدمات التي تعيد لهذا الإنسان كرامته وإنسانيته. شروط تأهيل الإنسان في عجالة تبلور الحدث، وللأسف لم تكن متوفرة.
إلا أن الأهم والمزري بأن واحد هو غياب قيادة لها رؤية ومفاهيم، قيادة تعي شروط الحاجة وقادرة على خوض الصراع من خلال إدراكها ووعيها لجبهة أعدائها، قيادة تحدد كل خطوة تخطوها لتعرف التي تليها، قيادة لا تسلم قيادتها لأعدائها وترتهن لهم، قيادة تعي أهمية الشعوب وماذا يمكن أن تفعل إذا ما صهرت وتجمعت على المستقبل الذي يعيد حريتها وكرامتها، وتؤمن لها مسارا آمنا بعيدا عن كل المطبات والحفر التي يمكن أن تواجهها.
لهذا افتقد الشعب إلى قيادة تدرك أن مهمتها التاريخية هي إيصال الشعب لأهدافه وحقوقه، وتدرك أن العصر لا يعود للوراء، ولا يمكن لفكر الهزيمة أو الهزائم أن ينتصر، قيادة تعي أهمية الدولة الجامعة ودورها في تسييج المجتمع بكل مكوناته.
وبما أن الثورة ليست فعلاً إرادوياً، ولا يمكن أن تكون جاهزة ناجزة، إلا أن قيادة تعي الواقع وتعرف ما تريد تبقى ضرورة لكي تعمل وتناضل، تصوب وتصحح المسار وتحميه من أي انجرار أو انزياح وتشتت، قيادة فاعلة تناضل ولا تثرثر، قيادة تجوع وتجرح وتستشهد مع جماهيرها، وليس قيادة تتلطى وراء عجزها وخيباتها، قيادة حاسمة وبشكل قاطع مع أعدائها ويشكل هذا الحسم وعيا أصيلا عندها، قيادة تدرك كيف تتقدم هنا وتتنازل هناك، تعرف متى عليها أن تتصلب ومتى يمكنها أن تساوم، قيادة تعي كيف تدير الدفة ولاتساوم على المستقبل، قيادة تضع جماهيرها وتقاسمهم كل الأمور، قيادة موجودة بضمائر الناس عطاء وتضحية، قيادة تجسد ضمانة الوصول إلى الغد المأمول.
للأسف لا يوجد قيادة بالمواصفات المذكورة، وليس هناك إرادة ومناخ هيأته هذه المعارضة كي تنبثق هكذا قيادة من بين صفوفها، بمعنى أنه لا يوجد لغاية الآن إلا عقول تعتقد أنها تمتلك الرؤية، ومكشوف عنها الحجاب، لكنها لا تعي الصديق من العدو، نسمع منها طنيناً وحماقات.. والواقع يمشي وينحدر صوب هاوية التشرذم وغياب الرؤيا وشعبنا في المقابل يقدم ويقاوم بأغلى ما عنده لكي تنتصر ثورته.
من القضايا الواضحة والثابتة والتي لا نقاش بها:
1 ـ أن نظاما فاجرا مثل النظام السوري يتحمل المسؤولية كاملة عما يحصل.
2 ـ أن النظام يؤكد تمسكه بهذا الصلف والعسف ولو أطيح بالبلد وبكل من فيها.
نظام عمل لكي يتدخل الجميع بوطننا والتآمر على تحطيمه، ومازال هذا قائما، مازال مشروع تحطيم وطننا ومنطقتنا قائما ومطروح أقليميا وعالميا.
مقابل معارضة تتفرق ولا تجتمع، معارضة لا برنامج لديها ولا تحكمها وثائق ولا مواثيق ولا رؤية، مثقفين من الهزالة والتسطيح لدرجة الفجيعة.
لاشيء.. لاشيء.. مجموعات مسلحة تقاتل، يختلط بها الوطني بالتاجر باللص وبالأبله.
من يقاتل يريد كسبا، ومصالح شخصية ضيقة، ولكننا دون رؤية وبرنامج واتفاق على مستقبل واجماع على ماذا نريد.
وهكذا يتوالى إسقاط أنفسنا من خلال معارك الإسقاط التي تتوالى.
لا شيء هناك.. إسقاط النظام ضرورة وطنية، ولكن من أجل بناء دولة وطنية دولة مواطنة دولة السوريين جميعا.
من الضرورة بعد هذه السنين والضحايا والخيبات أن نصارح شعبنا ونقول: إذا استمرت الأمور هكذا فلا شيء يمكن حصاده سوى الخيبة والأفق المجهول، ولا شيء واضح سوى الهزيمة.
ملاحظة:
وضع المثقفين العرب واليسار العربي والقوميين والليبراليين.. من الهشاشة والسخف وإسقاطهم لا يقل ضرورة عن إسقاط الأنظمة.
مثقفين آخر زمن.. مثقفي الخيبة ومبرريها!.
زكريا الصقال
عضو الأمانة العامة لتيار الغد السوري