أذكر عندما مات حافظ الأسد عام 2000 أنني كنت طفلاً بالرابعة عشر من العمر، وكنت بالقرية في ريف إدلب عندما سمعت مآذن المساجد تقرأ القرآن كلها معاً، فسألت أحد كهول القرية عندما صدفته أمامي على الطريق; لماذا يقرؤون القرآن على مآذن المساجد بدون مناسبة ؟ فأجابني بقوله: “حافظ الأسد ؟!!! وكان يشير بإصبعه للسماء” ، دون أن يجرؤ على أن ينطق ويقول أن حافظ الأسد قد مات أو توفي أو حتى استشهد.
بل كان فقط يقول حافظ الأسد ويشير بإصبعه للسماء، وهو يرتجف ويلتفت حوله لعل أحداً يسمعه وهو يتلفظ باسم حافظ الأسد.
ثم حدث في بداية عام 2012 عندما زارنا أحد أقربائنا وهو ضابط برتبة عالية بالجيش السوري وهو أحد مستشاري قيادة الأركان آنذاك، أن تحدثنا عما تشهده البلاد من مظاهرات مطالبة بالحرية حينها وما نراه من تخوفات، فسألته إن كان يقف في صف النظام أم لا، ولماذا لا ينشق قادة الجيش وأصحاب الرتب والوظائف العليا في الدولة عن النظام، فأجابني بسؤال لم أكن أتوقع مطلقاً أن شخصاً مثله سيسأله فقال: من هو النظام أصلاً ؟؟ وهل تعتقد أنه إذا انشق حتى قائد هيئة الأركان للجيش السوري سيؤثر ذلك على “النظام” لا بل حتى إذا إنشق بشار الأسد نفسه ؟؟.
بالحقيقة لم أفهم حينها ماذا يقصد بهكذا تساؤلات، اعتبرتها غير منطقية أبدا، فمن الحتمي أنه في أي دولة سينشق فيها رئيس الحكومة أو قائد الجيش أو أي شخص ذو رتبة عالية بالدولة سيحصل خلل كبير قد يودي بسقوط نظام الحكم برمته في ظل أحداث كالتي نعيشها في سوريا،
واعتبرت كلامه وقتها تبريراً لجبنه وتردده في الوقوف في صف الثورة السورية، إلى أن حدث تفجير مكتب الأمن القومي بدمشق في 18 يونيو 2012، والذي راح نتيجته كبار قادة المؤسسة الأمنية وقادة مكتب الأمن القومي، الذين لا زالت مجرد أسمائهم ترعب الكثيرين في سوريا، والذين حكموا كل مؤسسات الدولة بما فيها الجيش بقبضة من حديد وبلا هوادة أو رحمة على مدى أربعة عقود.
عندها توقعنا جميعاً أن النظام سيبدأ بعدها مباشرة بالتداعي السريع وتوقعنا أننا سنشهد إنشقاقات كبرى بالجيش على مستوى قطع عسكرية ورتب عالية، وإنشقاقات أخرى بالمؤسسات الحكومية وما إلى ذلك حتى ينهار النظام تماماً.
لكن ما الذي حصل بعدها ؟ بالحقيقة لا شيء، قام “النظام” فوراً وبكل بساطة بتعيين بدلاء لهم لا يقلون قذارة وإجراماً عن سابقيهم، وعادت عجلة النظام للدوران بشكل طبيعي كما كانت، لا بل إنها لم تتوقف عن الدوران أصلاً.
عندما كنت أتابع هذا الحدث حينها وأحاول أن أرصد ما سيترتب عليه من تداعيات فيما بعد، لم يحضر في ذهني إلا ردة فعل ذلك الكهل بالقرية أثناء موت حافظ الأسد و تساؤل ذلك الضابط، فبالفعل من هو النظام إذاً ؟؟.
هل هو شخص الرئيس؟؟ بمعنى أنه هل إذا مات بشار الأسد فجأة سنجد أنفسنا في ساحات دمشق وحلب نرفع أعلام الإستقلال لأن النظام قد سقط ؟؟ أم أنهم مجموعة أشباح لا نعرف حتى أسماءهم يحركون ويديرون كل مفاصل الدولة بما فيها مكتب الأمن القومي ؟.
ما الذي يجعل ذلك الرجل الكهل يشير بإصبعه للسماء بدل أن يقول أن حافظ الأسد قد مات طالما أن حافظ الأسد قد مات فعلا؟ أي أنه يفترض أنه لم يعد هناك من سبب للخوف.
إن تلك الملاحظات والتساؤلات وغيرها مما قد نلحظه حتى في سلوكيات الكثير من أطياف المعارضة السورية المحسوبة على الثورة – السياسية والعسكرية – ولكنها تشبه إلى حد بعيد بأفرادها وكياناتها النظام السوري من حيث عقلياتها الشمولية المنغلقة وأدائها المفتعل و تمترسها خلف الشعارات و إطلاقها التخوينات والأكاذيب في نفس الوقت وغيرها من السلوكيات المستوحاة تماماً من تركيبة النظام، تدفعني إلى أن أخلص إلى القول بأن “النظام” هو نحن بكل بساطة، هو مجموع الأفراد السوريين الذين يتبنى كل منهم فقه النظام في التعاطي مع الآخر قولاً وفعلاً، على أساس التهديد والتخويف والرعب الذي بنيت عليه عقلية نظام الأسد الأب، وعلى أساس ما اكتسبناه عبر أكثر من أربعة عقود من السادية والعنف.
فلو فرضنا جدلاً أن نظام بشار الأسد قد سقط فعلاً فمن سيكون البديل ؟ بالحقيقة سيكون البديل هو النظام نفسه متجسداً بقوى المعارضة التي تعمل حالياً على إسقاطه بنفس عقليته وأسلوبه.
وبالتالي ما يمكنني تأكيده أن “النظام” الذي ينشد السوريين الأحرار والشعب السوري عموماً الخلاص منه ليس منحصراً فيما يعرف بنظام بشار الأسد وتركيبته الأمنية مطلقاً، وإنما هو كل الأفراد والمؤسسات السياسية والعسكرية التي تتصرف بنفس عقليته وأسلوبه – حتى لو كانت على الضفة الأخرى – مضافاً إليها النظام السوري السابق، هذه المنظومة المتكاملة – معارضة وموالاة – والتي تشتغل معاً لإعاقة أي انتقال سياسي فعلي يحقق للسوريين أهدافهم هي بمجملها ما يمكننا أن نسميه “النظام” الذي يتوجب على السوريين الخلاص منه، ولا خلاص للسوريين أبداً ما لم يتخلصوا من هذه المنظومة كاملة .
محمد قنطار عضو الامانة العامة لتيار الغد السوري