مقدمة
يتحدد السلوك السياسي الإيراني في إطار عملية تكتيكية لا تخرج عن إستراتيجيتها النهائية، التي تبدأ وتنتهي بميزة التفكير البراغماتي، القائم على المساواة بين الأعداء والأصدقاء، في إطار سياسية واضحة لمصالحها الحيوية، التي تتمحور في المنطقة العربية بشكل عام، ومنطقة الخليج العربي بشكل خاص.
وتتعقد المعادلة الإيرانية أكثر، في علاقتها بالداخل العربي والخليجي، فهي داعمة وممولة لمكونات داخل الدولة الواحدة، على حساب مكونات داخلية أخرى، الأمر الذي خلق حالة من التغريب خارج حدود الدولة الوطنية، رسخ في مراحل لاحقة حالة من التشويش والفوضى، التي كرست الخلافات الداخلية، كما شكلت مدخلاً استراتيجياً لبروزها كقوة إقليمية بديلة عن النظام الإقليمي العربي.
الشيعة كمكون وطني والتشيع كنظرية سياسية
تعتاش السياسة الإيرانية على الحروب والصراعات الداخلية في محيطها، فمن الحرب الأهلية في لبنان انطلق العمل الإيراني الممنهج إلى كامل المنطقة، إذ بدت فكرة تفعيل السياحة الدينية الدفاع مقدمة لثقافة الدفاع عن مثاوي آل البيت، حيث شكلت هذه الحالة مدخلاً للتشيع كنظرية سياسية، وذلك في الاستفادة من الخاصرات الرخوة في القرى والأرياف، والمناطق الفقيرة المهمشة، التي أفرزتها آليات الحكم الفاشلة سياسياً واقتصادياً في الدول العربية.
بهذا المعنى، أصبح التشيع مجرد أداة قومية – كليانية، وظفتها الحكومات الإيرانية المتعاقبة، لصناعة الكراهية داخل مكونات الوطن الواحد، قبل أنْ تصبح عقيدة سياسية لتكفير الأنظمة والشعوب في كامل المنطقة العربية، وحجة مغلفة بإيديولوجيا دينية جاذبة، اختزلت من خلالها الدين الإسلامي بشكل عام، والمذهب الشيعي بشكل خاص بوجهة النظر الإيرانية، ما برر -في مراحل لاحقة- الترويج لفكرة حماية الشيعة في كل مكان.
وفي هذا الخصوص، يقول الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد: “إن هناك تأويلات كثيرة للإسلام، إلا أن التأويل الإيراني هو أساس ممارستنا، وأنّ خبرة التاريخ تثبت أن التأويل الإيراني هو الأقرب للحقيقة”.
إيران: استعداء الشيعة لا حمايتهم
قبل “الثورة الإسلامية” في إيران سنة 1979، شكل البعد التاريخي في التعايش بين السنة والشيعة منعكساً لبلورة مفهوم الدولة المعاصرة، التي ولدت على أنقاض دولتين ثيوقراطيتين هما العثمانية – السنية، والصفوية – الشيعية.
مع وصول الخميني إلى السلطة، أعاد لإيران فكرة تسييس المذهب، بعد أنْ نجحت المنطقة العربية في تجاوز ظاهرة الاختلاف الديني أو المذهبي، الذي خرج من الجامع والحوزة، ليصبح مادة خلافية داخل المكونات المجتمعية في الدول العربية، إذ أفرزت ” الثورة الإيرانية” أذرع سياسية وعسكرية لها داخل الدول العربية.
منذ فكرة تصدير الثورة الإيرانية، كحامل أساس في الدستور الإيراني، وضِعتْ الدول العربية في واجهة المشروع الإيراني – المذهبي الجديد، إذ لم يكن مشروعاً شيعياً في مواجهة السنة وحسب، بقدر ما كان مشروعاً لزرع الخلاف داخل البيت الشيعي ذاته.
ففي مسائل العقيدة، ظهرت نظرية ولاية الفقيه كدين جديد جاء به الخميني، ما أفرز خلافاً عقيدياً، ظهرت أولى تجلياته في الصراع بين مقلدي مرجعية “قم” في إيران، ومقلدي مرجعية “النجف” في العراق، وصلت إلى حدود الاقتتال المسلح، الذي دفع ثمنه أبناء الشيعة أنفسهم.
لقد وضعت مسألة الولاية المطلقة للولي الفقيه التي كتبها الخميني كدستور للثورة، المرشد الأعلى حاكماً شمولياً مطلقاً في جميع المسائل السياسية والدينية، فأصبح المرجع الوحيد والحامي لكافة الشيعة في العالم.
هذا وضعت “الثورة الإيرانية” الشيعة أنفسهم في خلافات حول تعريف المذهب الخميني الجديد، الذي اعتبرته الكثير من المرجعيات العربية والإيرانية، افتئاتاً على معتقدات المذهب الشيعي، الذي يؤمن بفكرتي “الغيبة” و”الرجعة”، اللتان لم تعد لهما قيمة، بعد أنْ نصب الخميني نفسه ولياً ينوب عن الغائب المنتظر، والحاضر المجتهد.
شكل لبنان أنموذجاً لتداعيات تسييس المذهب، إذ برز الشقاق والاقتتال بين المكونات الشيعية، تزامناً مع وصول الخميني السلطة 1979، عندما لم تنجح إيران في جر التوجهات الوطنية لحركة “أمل الشيعية”، إلى حضيرة النظرية السياسية للولي الفقيه، ما دفع لتأسيس نواة إيرانية إيديولوجية لها في لبنان، تمثل في “حزب الله”، الذي دخل منذ بدايات تأسيسه في أتون الاقتتال الدموي مع الشيعة اللبنانيين في حركة أمل، في المعارك الشهيرة في “إقليم التفاح” 1987، التي ذهب ضحيتها الآلاف من أبناء الطائفة الواحدة، والمدينة الواحدة والقرية الواحدة، والبيت الواحد.
استراتيجية الإيهام والتراكم.. فالتواجد
تتحدد مرتكزات السياسة الخارجية الإيرانية على العمل الاستخباري، الذي يكتفي في مراحله الأولى بأدنى نجاحات ممكنة، وربما اللا نجاح أو الفشل، إذ يكتفي بالإيحاء بوجوده، كمقدمة ممنهجة لتراكم الأحداث، التي تقوم بدعمها مادياً ومعنوياً، عن طريق منظوماتها من “جيش القدس” والحرس الثوري.
فعلى سبيل المثال أشارت مصادر موثقة في وزارتي الداخلية والدفاع العراقية، أن عدد الميليشيات المسجلة بشكل رسمي، والمدعومة بشكل مباشر من المؤسسة الرسمية في إيران، بلغ 220 ميليشيا، مرتبطة بفيلق القدس وحده.
انتهجت السياسة الإيرانية بعداً شمولياً راديكالياً تجاه القضايا العربية، أخذت طابع المغالاة والتطرف، في محاولة لإظهار نفسها “ملكاً أكثر من الملك”، فأصبحت فيه عبارات تحرير القدس ومحاربة الاستكبار العالمي، مجرد بروبوغندا إعلامية، تروجها لأذرعها داخل الدول العربية.
اختارت الولايات المتحدة الأمريكية، فور انتصار “الثورة الإيرانية” النهج الدبلوماسي بالتعامل مع إيران، بعد أن أدركت الملفات المشتركة بينهما في المنطقة العربية، لاسيما ماتعلق في توظيف الإسلام وإقحامه في السياسات الدولية، وتثوير العامل الديني والصراعات الطائفية، وهو ما سمح للسياسة الإيرانية في توظيف الطابع العقائدي- المذهبي لثورة 1979، وإعطاء الأولوية لنظرية تصدير الثورة، والتمدد في كامل محيطها.
تضمن الدستور الإيراني فكرة “الدولة الإسلامية الجامعة” التي تعود في جذورها لأفكار تتقاطع وحركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، باتفاقهما في فكرتي “الخلافة” و”الجهاد المستمر” كمرتكز للسياسة الخارجية الإيرانية، وسلوكها السياسي إلى يومنا هذا.
إيران والتواجد المسلح: البداية من “حزب الله”
ولد “حزب الله” من رحم حركة “أمل” عام 1982، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، عندما كانت الحركة تمثل جميع اللبنانيين، وتدافع عن مصالحهم ومصالح لبنان، من خلال سياسة ترفع الولاء الوطني اللبناني، المنضوي تحت المقاومة الوطنية اللبنانية، الأمر الذي لم يعجب إيران كدولة نصبت نفسها حامية للشيعة في العالم.
قامت إيران بشق حركة أمل وتأسيس “حزب الله”، فأصبحت علاقة الحزب معها أبعد من دعم تنظيم ثوري خارج الحدود؛ فقد تحوّل “حزب الله” إلى جزء من مؤسسة الحكم في إيران، وأعلنت قيادته تمسكها بإيديولوجية الثورة الإسلامية الخمينية.
لم يكتف “حزب الله” في تحالفاته مع إيران، إنما جرّ إليه منظمة حماس، ليتكون بذلك محور انتقل –بعد الخروج السوري من لبنان- من القيادة السورية إلى القيادة الإيرانية، ما وضع إيران قوة إقليمية في منطقة تعصف بها الصراعات والانقسامات والفوضى.
خــــــــــاتمة
وقعت إيران في فخ الصراعات الكلاسيكية القائمة على تثوير العوامل الإيديولوجية، في الوقت الذي أصبح فيه النظام الدولي محكوماً بنوع جديد التنافس القائم على العوامل الاقتصادية والتنموية، فإيران استنزفت ومازالت تستنزف بما فيه الكفاية في مناطق تمددها، الأمر الذي انعكس على الداخل الإيراني على شكل آفات مجتمعية خطيرة من الفقر والبطالة وانتشار المخدرات بين صفوف الشباب، فقد كشفت أحداث الثورة الخضراء 2009 التململ الذي أبدته الكثير من القوى الإيرانية من سياسات التدخل، حين رفع المتظاهرون شعارات “يسقط الدكتاتور” و”لا لبنان لا غزة”، في إشارة لرفض السياسات الشمولية للدولة الدينية، التي مازالت تصنف داخل النسق الدولي، بأنها مجرد “دولة مقلقة”، مازالت تعاني من عدم قدرتها على الاندماج في المجتمع الدولي، ما يمهد لهزات عنيفة تنتظرها على المدى القريب، كحتمية تاريخية طالت كل الدول الثيوقراطية عبر التاريخ.
نهايةً، تشير وقائع التاريخ لحتمية تاريخية مفادها، أنّ نهايات الدول الثيوقراطية – الدينية، غالباً ما تكون مقدمة لإعادة صياغة نظام دولي جديد، تماماً كما حصل بعد نهاية حكم الكنيسة في أوروبا، الذي أورث حرب الثلاثين عاماً، وكما حصل مع الدولة العثمانية، التي أورثت حرب القرم والحربين العالميتين الأولى والثانية.
النهايات ذاتها، تقف أمامها اليوم، الدولة الثيوقراطية في إيران، بعد أكثر من ثلاثين عاماً، أخذت خلالها ما يكفي من حروب دينية، تقتضي معها ولادة نظام دولي وإقليمي جديد.
بقلم: د. محمد خالد الشاكر