روسيا ومآلات الصراع في سوريا: إعادة تقييم مواقع القوى في الشرق الأوسط (رؤية استشرافية)
بقلم الدكتور محمد خالد الشاكر
مقدمة
قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وصف عالم الجيوبوليتيك الأمريكي ألفرد ماهان ( 1840 – 1914) روسيا بـ”قلب الأرض الأوراسي” لما تمتلكه من امتداد جيوبوليتكي على سواحل وبحار القارتين الأوروبية والآسيوية، ماجعل من هذه البقعة على مر التاريخ قلعة من الصعب اقتحامها أو استعدائها، على حد تعبير ماهان.
حذر “ماهان” -الذي يعود إليه الفضل في وضع المرتكزات الأساسيَّة للمدرسة الواقعيَّة التقليديَّة- من القوة الروسية التي تنذر بالسيطرة على العالم، بسبب سيطرتها على قلب الأرض، وقد أكد الاستراتيجي البريطاني هالفورد ماكيندر (1861- 1947) نظرية ماهان بقوله” من يسيطر على أوراسيا يسيطر على الأرض”.
مع وصول روزفلت إلى سدة الرئاسة بطموحات عالمية، طرح منظر الواقعية الكلاسيكية رينهولد نيبور (1892 – 1971) سنة 1941 ، فكرة إعادة التوازن أمام القوة الروسية، فكان من أوائل الذين ركزوا على أهميَّة منطقة الشرق الأوسط كبعد استراتيجي للمصالح الحيوية الأمريكية، معتبراً ” أنَّ من يسيطر على الشرق الأوسط يسيطر على أوروبا”.
ازادد الوهج الروسي ألقاً ونجومية في الشرق الأوسط بعد الانتصار الأعظم في التاريخ المعاصر على النازية والفاشية، فأصبحت روسيا قبلة النضال والداعم الأكبر الذي يقف وراء جميع حركات التحرر العالمي.
على إثر التفكك المهين للاتحاد السوفياتي، عاد بوتين ليخرج بلاده من سنوات الضعف التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، فأحكم سيطرته على ثروات البلاد من النفط والغاز في تزامن مع ارتفاع أسعارهما في السوق العالمية، ما أدى إلى انتعاش الاقتصاد الروسي، وارتفاع مستوى معيشة الفرد، الأمر الذي زاد من شعبية بوتين بشكل غير مسبوق.
روسيا وعقلية القيصر الجديد: البداية من عقيدة القهر العسكري
أثبت بوتين قدرة روسيا في صناعة القرار الدولي، بل والاستحواذ عليه بمنطق “القوة في العلاقات الدولية”، منذ اجتياح جورجيا 2008، وانتهاء بشبه جزيرة القرم 2014، مايعني عودة روسيا إلى عقيدة السطوة العسكرية، التي تميز بها الاتحاد السوفياتي السابق.
هكذا بدأت روسيا بسياسة الثأر لتاريخها، فنشطتْ دبلوماسيتها في إنهاء التفرد الأمريكي، وكان لها ما أرادتْ حين أعادت من جديد منطق الثنائية القطبية على مائدة العلاقات الدولية، بل واستطاعت أن تكون في العقد الأخير من الزمن، الدولة الأكثر تأثيراً في ملفات الشرق الأوسط، بعد إعلان الولايات المتحدة عن سياستها في الانكفاء وعدم التدخل، بما في ذلك تخليها –أي أمريكا- عن مشكلات شريكها الجيوستراتيجي المفترض أوروبا، لاسيما بعد الموقف الأمريكي من الأزمة السورية، التي وضعت أوروبا في واجهة التداعيات السلبية للحدث الأهم في الشرق الأوسط، دون أنْ تحرك الولايات المتحدة ساكناً.
لم يكن العقل الجمعي للشعب الروسي يوماً، بمنأى عن ثقافة الالتفاف حول سياسات بلاده، منذ العداء الروسي للنازية والفاشية، ويخطأ من يظن أنّ السياسة الروسية بمنأى عن الثقافة الجماهيرية للشعب الروسي، ولعل تعلق الأخير ببوتين كقيصر جديد، أعاد لكل روسي ثقافة القوة والشجاعة، التي أنقذتْ العالم من ويلات الكثير من الحكومات المستبدة في جميع أصقاع الأرض، واستبدلتهم بمناضلين في سبيل التحرر والاستقلال، بل ورفعتهم إلى مصاف الرموز العالمية، كما فعلت مع غيفارا، وباتريس لومومبا، وفيديل كاسترو في أصعب المراحل التاريخية التي مرت بها بلادهم.
روسيا، الدولة التي دحرت النازية والفاشية: لماذا ناصرت الأسد؟!
ربما يسأل سائل، لماذا وقفت روسيا إلى جانب نظام شمولي في سوريا، ودافعت عنه دفاعاً مستميتاً؟!.
تنبئنا سيكولوجية السياسة الخارجية الروسية بمحددات وجودها، كقوة لاتقبل الاستفزاز من أحد خصوصاً من الطرف الأقل منها قوة، فروسيا تدرك تماماً موقعها في العالم ودورها في التاريخ المعاصر خلال الحرب العالمية الثانية، حين قدمت مايقارب الـ 20 مليون قتيل في حربٍ داهمتها في عقر دارها. لذلك فهي شديدة الحساسية بكل مايتعلق بأهمية انضباط الدول بتراتبية القوة داخل النظام الدولي.
المعروف عن السياسة الخارجية الروسية، بأنها مؤسسة لا تحبذ المغامرات أو التجريب في السياسية الدولية، فهي واضحة مع أعدائها وضوحها مع أصدقائها، فلطالما عارضت الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، منذ تقييمها للحرب على العراق بأنه عمل عدواني، مستخدمةً حق الڤيتو في مجلس الأمن في شباط/فبراير 2003، كما أدانت العدوان الأمريكي على أفغانستان في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.
تشير الهوية التاريخية للسياسة الروسية بأنها قوة تحب بقوة، كما تكره بقوة، فلا تجيد اللعب داخل الغرف المغلقة، إلا إذا تعلق الأمر بهيبتها أو هيبة من يقاسمها العالم. لذلك لا تعقد جلساتها السرية وتفاهماتها إلا مع الولايات المتحدة الأمريكية اعترافاً منها بمنطق التوازن، وفيما عدا ذلك فهي لاتقبل أي علاقات سرية سواء مع حلفائها أو أعدائها. ولعل حادثة التسريبات الأمريكية مؤخراً بخصوص آلية رحيل الأسد بتفاهم أمريكي – روسي، هي الدليل الأمضى على ذلك. فبالرغم من هذا التفاهم، لم يتورع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بتسميتها بـ” التسريبات القذرة”.
اعتبرت السياسة الروسية التسريبات آنفة الذكر، تقليلاً من هيبة روسيا، التي دخلت بقوة لكبح جماح التخبط الذي وضع الأزمة السورية في مهب تناقضات القوى الإقليمية وعدم قدرتها على إيجاد تناسق في الأدوار الإقليمية، التي لم تفشل في إحداث أي تقدم يذكر وحسب، بل زادت من تعقيدات الصراع السوري، وأدخلته في مداخل أصبحت تهدد المصالح الحيوية لروسيا في كامل منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي ما انفكت فيه إدارة أوباما عن المراوغة من خلال دس السم في عسل المعارضة السورية الممثلة في التفاوض، ومحاولة “نفخها” بمطالب ذات سقوف أعلى من القرار الدولي 2254 ذاته، فكان ماكان.
منذ الاتفاق النووي مع إيران، حاولت إدارة أوباما إرباك النفوذ الروسي، في سياسة مستفزة، تذكرنا تذكرنا بالمثل العامي الذي يقول “لا يريد أنْ يعبر .. ولايريد أنْ يعطي الجراب”.
يؤكد الفرضية آنفة الذكر، ماكشفه التقرير الذي قدمه مؤخراً “استرون استيفنسون” رئيس الجمعية الأوروبية لحرية العراق EIFA الذي تحدث في ندوة بمجلس العموم البريطاني عن سياسية الانسحاب الأمريكي، في إطار الخطة التي رفعت الغطاء عن حقائق مذهلة في الحرب ضد “داعش”، التي كشف من خلالها “اسيفنسون” الهدف الأمريكي بالتواطؤ مع إيران لقتل أكبر عدد من العرب دون التمييز بين شيعة وسنة، ضمن خطة تحدث عنها “هنري كيسنجر” منذ 2011، أريد من خلالها نوع من التطهير العرقي والمذهبي، الذي يمهد لصراعات إيديولوجية – كلاسيكية في المنطقة العربية.
تقرير “استيفنسون” آنف الذكر، كشف أيضاً التواطؤ الذي قامت به حكومة أوباما مع إيران لتنفيذ سياسيتها في الشرق الأوسط عبر المليشيات الطائفية، وهو مايتعارض مع أهم محددات السياسة الروسية التي تقوم على محاربة كل ماهو راديكالي – إسلاموي سواء كان سنياً أم شيعياً.
النظام السوري والنوم في المعطف الروسي السميك
استشعرت روسيا خطورة مايحاك لبعدها الحيوي في المياه الدافئة، وبالذات في سوريا. فلمست محاولات استعدائها واستفزازها من دول وظيفية صغيرة، وأخرى إقليمية أقل منها شأناً، وهو ما رأت فيه مغامرة سياسية أكبر من حجم وتصورات القوى المحلية والإقليمية بما فيها تركيا.
منذ بداية الأزمة السورية، بدا النظام السوري الأكثر فهماً للسياسة الروسية، لذلك ظهر أكثر ارتياحاً وتمترساً وعنجهية في التعامل مع خصومه، كيف لا وهو ينام في المعطف الروسي السميك، الذي أهلهُ لأن يصرح بثقة –على لسان وزير خارجيته- بأنّه “سينسى أنّ هناك أوروبا على الخارطة”، وهو المنطق الذي فسره البعض من السياسيين بأنه انتحار سياسي يمارسه النظام السوري، في الوقت الذي اعتبره استراتيجيون على أنه تصريح واقعي، ينطلق من فهم لسيكولوجية السياسة الروسية، ونظرتها للقوى المتورطة في الصراع السوري، بما فيها أوروبا المحكومة –تاريخياً- بعقلية الدب الروسي سياسياً واقتصادياً.
لهذا كله، ظهر الحنق الروسي واضحاً، حين اتجهت حكومة العدالة والتنمية في تركيا إلى دعم المكونات الإسلاموية، وقدمتها على باقي المكونات السورية، وهو ما زاد من تمسك روسيا بالأسد أكثر فأكثر، في الوقت الذي كانت فيه تركيا تمارس عقلية المغامرة مع دولة مثل روسيا، لاتحبذ المغامرات في منطق العلاقات الدولية، خصوصاً إذا تعلق الأمر باستفزازها بدعم الحركات الإسلامية، التي عانت منهم لعقود من الزمن.
لقد شكل الاستفزاز التركي -منذ بداية الأزمة واستحواذه على الملف السوري- أحد أهم عوامل “الجكارة” الروسية للتمسك بالأسد، وهو ما أثبتته حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل الأتراك، التي انتهت باعتذار تركي، شكل اعترافاً بموقع روسيا في قلب الأرض الأوراسي، بما في ذلك من دلالات قاسية ومهينة في منطق السياسة الخارجية، ومقدمة لسحب البساط كاملاً من تركيا وإخراجها من الملف السوري.
طموحات بوتين في إعادة ترتيب موازين القوى في الشرق الأوسط
في خطابه الأخير، خرج بوتين ليعلن للعالم، بأن الأزمة السورية مقدمة لحل الكثير من العقد التي يجب حلها في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما فسره البعض بأنه إشارة روسية على استمرار الصراع في سوريا، بينما حرفية الخطاب ودلالاته، كانت إعلاناً واضحاً بأنّ لا حل لجميع عقد الشرق الأوسط، قبل حل الأزمة السورية، التي اعتبرها بوتين بوابة روسيا لحل الصراع وليس إدارته على الطريقة الأمريكية.
يشير خطاب بوتين إلى عزم الأخير على ترتيب المنطقة على الطريقة الروسية وبتنسيق مع جميع القوى الإقليمية، بخلاف سياسة المحاور التي أفرزتها سياسات تطييف المنطقة، التي أسست لها سياسات تركيا وإيران، بابتداع فرضية الصراع بين محور سني يقابله محور شيعي، كفرضية ساقتها محاولات الولايات المتحدة في استبدال النظام الإقليمي العربي بنظام إقليمي مبتكر تقوده تركيا و إيران، وهو ما يتعارض مع السياسة الروسية المستجدة، التي اشتغلت على الانفلات من الإيديولوجيا في عالم الصراعات الاقتصادية وتحديات الطاقة.
يدرك بوتين تماماً سياسة المراوغة والغزل بين حكومة الملالي وإدارة أوباما، مايقوض فرضية محور الممانعة الذي دفعت ثمنه المنطقة كوارثاً لاتحصى. لذلك أقدم بوتين على إضفاء الصراحة والوضوح الروسي على ملفات المنطقة، حين أهدى نتناياهو -مؤخراً- دبابة إسرائيلية كانت إحدى غنائم اجتياح بيروت، مايعني قفزاً روسياً فوق جميع القوى التقليدية الفاعلة في الشرق الأوسط، بدءً من أمريكا وأوروبا وانتهاء بإيران وأذرعها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، مايعني تنافسات جديدة خارج عقلية الصراع الإيديولوجي، تصب في مجملها في إطار العلاقات الدولية الجديدة، التي قوامها التنافس على الطاقة.
خاتمة
لقد أصبحت الأزمة السورية أولوية روسية لفتح جميع الأبواب المغلقة في الشرق الأوسط، وفي إطار حساباتها الجديدة في حروب الطاقة، التي وضعت روسيا أمام مهمة إعادة ترتيب القوى الأربع (السعودية، تركيا، إسرائيل، إيران)، وذلك بضمان الإبقاء على تركيا كمعبر، والتنسيق مع السعودية كفاعل في سوق النفط، واحتواء إسرائيل إيديولوجياً وتطويقها اقتصادياً، وذلك بالحد من تهديد المصالح الروسية في أوروبا، لاسيما بعد الخطوات التي قامت بها كل من قبرص واليونان بإطلاق يد إسرائيل في حقول الغاز شرق البحر الأبيض المتوسط. أما بالنسبة لإيران فتحاول روسيا تحييد وقصقصة الإيديولوجيا الإيرانية، بدءً من محاولات تغيير شكلها الثيوقراطي، وإعادة إدماجها في النظام الدولي بحلة جديدة.
باختصار: تبدو الدبلوماسية الروسية تسير في نسقها التقليدي، ليس بالاستحواذ على منطقة البحر المتوسط وحسب، إنما بالاستحواذ على القرار داخل أوروبا بعد التخلي والانكفاء الأمريكي، مايعزز نبواءت أهم استراتيجي التاريخ المعاصر “ماهان” و”ماكيندر”، اللذين توقعا استحواذ روسيا على القرار في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، وهي في سبيل ذلك تولي اليوم أهمية قصوى للبدائل الاستراتيجية قبل الحلول الآنية.
هذا ما أراد أن يقوله بوتين –مؤخراً- حين عرج على الأزمة السورية كبداية لحل جميع القضايا المستعصية في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها إعادة ترتيب مواقع القوى الدولية والإقليمية، في إطار مهام روسية بتغيير جميع البنى التقليدية في سياسيات الشرق الأوسط. وبين هذا وذاك تبدو مسألة الإطاحة بالأسد مجرد تحصيل حاصل.
خاص – مركز الغد السوري للدراسات والبحوث