تتطلب الحالة السورية ومآلات الصراع إلى رؤية منطقية وتحليل دقيق لما وصلت إليه الأمور بعيداً عن الأنانية والأحلام الشخصية أو المناطقية أو الآيديولوجية، أو المصالح الجيوسياسية للحلفاء. نحتاج لوعي الأخطار الداهمة، والبحث عن سبل مواجهتها، والتحضير بشكل منطقي من أجل مستقبل تتحقق فيه أهداف ثورة الشعب السوري.
عانت المنطقة لعدة عقود من حقبة الجهل تبعتها حقبة الاستعمار، وما أن بدأت الدولة السورية الحقيقية بالتشكل حتى جاءت حقبة البعث وعاثت فساداً في البلاد والعباد.
تدخل حزب البعث عبر مكاتبه وفروعه والأجهزة الامنية في كل مناحي الحياة واحتكر الحياة السياسية، وقضى على النماء المجتمعي، وحارب العلم والفكر والفن. وأفقر الناس ومنع عنهم كل سبل الحياة.
قطع نظام البعث العلاقات مع المحيطات الجيوساسية الأهم في المنطقة، تركيا – مصر – العراق. واعتمد على استمرار ولاء طبقة رأس المال، وذلك عبر تحقيق مصالحها والحفاظ على امتيازاتها. وعمل أيضاً على بناء مؤسسة دينية ضالّة مضلّة ساهمت في تجهيل المجتمع وتخلفه، وجعله عرضة للتضليل والانحراف الفكري.
لقد أرهق نظام حافظ الأسد الشعب السوري بالهموم، إذ عاصر الشعب نكسة حزيران ومن بعدها خيبة حرب تشرين، مروراً بمجازر الثمانينات، والدخول الى لبنان، وما رافقه من مجازر وانتهاكات، ومصادرة لقرار الدولة اللبنانية لعقود، ومحاربة الفصائل الفلسطينية هناك.
لقد خان نظام الأسد حتى القومية العربية المزعومة عبر مساندته لجمهورية ولاية الفقية الإيرانية في حربها مع العراق، خارجاً عن الاجماع الرسمي والوجداني العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص. وذلك بعيداً عن تقييم الشعب السوري لنظام صدام ومدى مطابقته بالشكل العام مع نظام البعث في سوريا.
لم يكن فرض فكرة قومية على بلد يعيش فيه الكثير من القوميات الا فكرة شريرة لزرع الفتنة من أجل استثمارها مستقبلاً. في الوقت الذي تطالب به القوميات اليوم بحقوقها المسلوبة لعقود في ظل الدولة القومية العربية تجد العرب من أكثر الناس تضرراً من السلوك البعثي المقيت ، ولا يخفى على أحد أن وجود العرب في الحياة السياسية السورية لم يكن سوى وجود صوري لا أكثر ولا أقل.
رغبت فقط بإلقاء الضوء على بعض النقاط التي يحتاج بحثها للكثير من الجهد والدراسة. إذ من الأفضل اليوم التركيز على الأخطار الداهمة التي تواجهها الدولة السورية، والمجتمع السوري. فالانقسامات المجتمعية الطبقية والمناطقية والدينية والمذهبية والعرقية والسياسية تظهر بأقصى درجاتها، وأكثرها هدماً وخراباً.
والشعب السوري بين نازح ومهجر يعاني من انفراط المنظومة الاجتماعية التي عاش وترعرع فيها، وغير قادر وغير مستعد للانخراط في مجتمعات جديدة يخاف منها، ولا تتفهمه. أصبح جزء منه اكثر عدوانية وطمع، وجزء آخر أصر على التميز والابداع، ومابينهما، ويحلم الجميع بالخلاص من هذه الحالة. في الداخل السوري تلوثت أيادي مئات الالاف من المؤيدين للأسد بالدماء، وفي المناطق الخارجة عن سيطرة الاسد حيث لا دولة ولا قانون يعاني الناس الامرين من فكر غريب عنهم يحمل لواءه اشخاص قدموا من خارج سوريا ويقودون تنظيمات متطرفة لا علاقة لها بالوطنية السوية، وقادة فصائل لا تملك من الفكر والخلفية السياسية مايسمح لها بالمساهمة في التنمية وبسط الأمن ، هذا كله بالاضافة الى عمليات القصف والاقتحام التي يقوم بها النظام والعصابات الطائفية الغاشمة على المناطق المحررة والتي هي بأشد العوز لكل أنواع الاغاثة.
إن الحالة الفنية الكارثية لملف الاحوال المدنية السورية وهو من أهم ملفات الأمن الوطني يعتبر نموذجاً عن الحال الذي وصلت اليه سوريا. الملايين من الولادات والوفيات لم يتم تسجيلهم منذ سنين، شهداء ومعتقلين ومغيبّين غير موثقين. بالإضافة الى عمليات التجنييس الممنهجة التي يقوم بها الأسد لحلفاءه من المجرمين اللبنانيين والعراقيين والإيرانيين والأفغان على وجه الخصوص. وملف التعليم ليس أفضل حالاً، وغيرهما.
تتعالى الأصوات اليوم متحدثة عن خطر زوال سوريا من الخارطة، ومن المؤكد أن كلامهم مستند لاثباتات أو هواجس لست في وارد ذكرها هنا. ولكن البديهي أن عودة سوريا بكامل ترابها وطن لكافة أبنائها يعيشون فيه ويبنون فيه صار اليوم حلماً.
سوريا أحوج ما تكون إلى الاستقرار، في ظل حكم شامل وعادل وغير طائفي، يكون فيه الشعب هو مصدر السلطات قادر على تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والرفاه والازدهار للبلد وللمواطنين، وبذات الوقت يجب أن يشعر المواطن بقوة وسيادة القانون. حكم تنتصر فيه الإنسانية على اللاإنسانية. تخضع فيه كل القيم والعقود الاجتماعية والدستور وطبيعة النظام ومؤسسات الحكم للحوار الوطني . حكم لايعادي جيرانه، و يرتبط مع دول العالم بعلاقات الاحترام والسيادة المتبادلة. بما يضمن المصالح الوطنية بالشكل الأمثل.
باستطاعتنا اليوم الاطلاع على الرؤى السياسية لكل أطياف المعارضة السورية، نجد أنفسنا أمام رؤى شبه متطابقة. يمكنني وبدون تفكير الإيمان بأي من هذه الرؤى والنضال أيضاً في سبيل تحقيقها. ولكن يوجد أزمة ثقة واضحة بين السوريين، ولتلافيها لابد من اللقاء والحوار، وإرسال بالونات الاختبار يمينة وشمالاً، من أجل الوصول تدريجيا إلى الثقة السياسية بين كل السوريين مكونات وتيارات، وبشكل تدريجي ومنطقي وهادئ.
والوصول للثقة التدريجي أو المباشر مرهون بأداء الشرائح الأكبر، سياسياً وقومياً ومذهبياً وتغليبها المصالح الوطنية وقدرتها على تطمين الآخر ومشاركته في التحول الديمقراطي، ومرهونة أيضاً باضطلاع النخب الاجتماعية الوطنية بمسؤولياتها في العمل على تثقيف المجتمع ومحاربة الفكر الإقصائي الهدّام.
للوهلة الأولى يبدو من الصعب أن ينخرط تيارين سياسيين الأول يميني والثاني يساري في مشروع وطني واحد لأن نظرتيهما الحزبية غير متوافقه لا على شكل الدولة، ولا على طبيعة النظام السياسي الملائم ومختلفين حتى على تقييم تاريخ مرحلة الثورة وربما ماسبقها بقرون عديدة، كذلك الأمر بالنسبة لتيارين قوميين، ولكن من الحكمة أن تتفق هذه التيارات على ضرورة تغليب المصالح الوطنية على المصالح الحزبية.
هنا تكمن الحاجة للابداع الوطني للوصول إلى بر الأمان. نحتاج لاجتثاث الظلم الاجتماعي، وإزالة كل الآثار السلبية سواء النفسية والتاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية التي تعيقنا، وتحصين المواطن ضد الوقوع في شرك النظريات اللاوطنية، ذات المنشأ الديني أو القومي أو غيره.
ولابد من استثمار الوقت وكل المشتركات سواء النفعية أو المخاطر، وتهدئة المزاج الشعبي العام، وتحضير كل شرائح المجتمع من أجل الانخراط في التحول الديمقراطي الذي يلبي طموحات الأغلبية الساحقة من الشعب، بما يتناسب مع احتياجات كل الثقافات المجتمعية بعيداً عن التهييج الممنهج الذي تؤسس له قنوات الاعلام والتواصل الاجتماعي.
وضرورة محاربة أصوات الكراهية والاحتكام الى قواعد المواطنة الخالصة والابتعاد عن الاستحواذ الديمقراطي المتمثل بالـ 50+1 في سوريا الوطن الجميل الذي يتطلع إليه أبناءه.
أحمد شبيب – عضو المكتب السياسي في تيار الغد السوري