أحاول في هذه الورقة لملمة ما يمكن من الأسئلة محاولةً واجتهادا شخصيين لتوضيح الرؤى حول بعض الزوايا التي يتم تغييبها في ظل موجة اليأس والإحباط التي تجتاح البلاد والعباد، ولا بد من التنويه هنا إلى أمور تأخذ الأولوية في هذه المحاولات: إن الأعزاء الذين شاركوا وساهموا في العمل العام سواء عبر التيارات والأحزاب والهيئات والتنسيقيات، أيا كان اختلافنا معهم في الرؤى وطرق العمل، هم في الموقع الأكثر إلحاحا للاستفادة من خبرتهم التي تراكمت عبر سنوات المقتلة السورية والبناء عليها والحوار حول سُبل تنقيتها من العثرات التي شابتها لبناء وطن لا بد إنه سيأتي، وثانيا، إن المحاسبة على عثرات الماضي وأخطاء يعتبرها البعض تصل إلى مستوى المشاركة في المقتلة، ليست في حسابات البناء عليها في الأحكام، وأن المستقبل وبناء رؤية قادرة على الحياة وقادرة على البناء عليها تملك الأولوية وأما فتح الدفاتر القديمة فهي مهمة الحانوتي المفلس ولا نتمنى أن يكون بيننا ذاك الصنف فقد بلغنا حداً من التوغل في المأساة لا يمكن معها الوقوف على ناصية الحانوتي وفتح تلك الدفاتر التي التهمها الحريق السوري وأكل عليها ولا يمكن لأي طرف أن يبرز صك براءته، فالأبرياء هم الأطفال والشهداء وحدهم، وأما ما عداهم فهم وبحكم انتماءهم لمعشر البشر وطبيعة الفعل البشري هي الخطأ، فلا يمكن تبرئة أحد، منذ الخطأ الأول الذي نزل فيه سيدنا آدم من الجنة وحتى آخر خطأ سيرتكبه السلالة الآدمية ويكفي أن نذكر أن النفس ” أمّارة بالسوء” وأن الفرق بين الله ومخلوقاته هو حصر الكمال كصفة للأول فيما يمتاز الآخر بحلاوة النقص التي هي ميزته وامتيازاته على باقي الكائنات.
سوريا الصغيرة بحجم قلب طفل ينزف، كيف لها أن تستعيد عافيتها وسط هذه الأمواج العاصفة من حيتان الأرض ووحوشها المفترسة؟ كيف تدعوني للمساهمة في تأسيس تيار جديد وتسميه تيار الغد؟ أي غد هذا والسوريون انقسموا بين ثلاث، مشاريع شهداء ولاجئين ومجرمين؟ أسئلة موجعة أرسلها صديق وناشط سياسي أقدر مساهماته حيثما تواجد، مذ عرفته في بداية القرن الحالي في الوطن وحتى هذه اللحظة حيث أختار عزلته الإرغامية في إحدى الدول الأوربية، ولأن الحوار مع أمثاله لا يمكن أن ينتهي أيا كانت درجة الاختلاف في النظر للأمور، فرأيت من الواجب نقل الحوار من الخاص إلى العام، حيث إن ما يمسه من وجع هو الوجع العام الذي يطرحه كل سوري في هذه اللحظة.
نعم المعضلة كبيرة، لا نبالغ إن المسألة السورية تفوقت في الأسى والتعقيد والنتائج الكارثية على كل مآسي العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى هذه اللحظة، لكن السؤال الذي يواجه حالة اليأس، هل ما يحصل اليوم هو نهاية التاريخ السوري؟ هل ثمة شعب انتهى إلى مجرد لاجئين وقتلى ومجرمين؟ ناهيك عن الميزات التي تغنى بها السوري طوال تاريخه من حيث إن سوريا مهد الحضارات وأول الأبجدية، حقيقة وليس من باب الاعتزاز المغرق في المقاصد الفاسدة والذي مارسه النظام طوال تاريخه منذ انقلاب الأسد الأب وحتى اللحظة مع توريث الجريمة الموغلة بالدماء والإفساد، ما يحصل الآن لسوريا والسوريين إلا سنوات كارثية ستمر وسيكون السوري الذي منح العالم الأبجدية والعلم والمعرفة وأسس الإمبراطورية الأموية لتشرق شموس الحضارة من الشام إلى إسبانيا ، سيكون بمقدوره بناء أكبر النماذج علوا ودليلا على قدرة الإنسان الخروج من المأساة إلى النور وما هو أكيد إن السوري لا يقل عن الألماني ذكاء وطاقة للبناء، الألماني الذي بنى بلاده بعد جريمة هتلر التي أصبحت مثلا في جرائم العصر الحديث.
سقوط ألمانيا وتقاسمها بين المعسكر الشيوعي الآفل بقيادة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي المنتشي بانتصاره بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لم يشكلا عائقا كبيرا أمام صعود الألمان مرة أخرى في عجلة التنمية بل وقيادة قاطرة الاتحاد الأوروبي، حيث تفوقت ألمانيا على الكثير من الدول الأوروبية التي صُنِّفت من الدول المنتصرة، وكي نقفل الباب على السخرية من مقارنة السوريين وسوريا بالألمان وألمانيا، نلفت النظر إننا نضرب مثالا بالألمان في محيطهم ويمكن سحب ذلك بالطاقة السورية في محيطها، وهذا بيت القصيد، حيث نكتفي بالحلم على قدرة السوري على الصعود في المنطقة وضرب المثال على التفوق ضمن بيئة وثقافة المنطقة بعد كل هذه الكارثة ولنا وقفة حول ذلك تاريخيا، منذ تأسيس الامبراطورية الأموية انطلاقا من أقدم العواصم المأهولة في العالم، دمشق وحتى هذه اللحظة.
النظر إلى الواقع الملموس في هذه اللحظة والتوقف عنده يستدعي لدى البعض الندب واليأس والقنوط، ولكن هل ستتوقف الأحداث في هذه المحطة، عصابات تنكّل ببعضها البعض وجثث متطايرة في كل اتجاه ومشاريع خارج السياق الإنساني وهزال سياسي للكثير من الوجوه التي تريد اللحاق بمكاسب آنية ودول وجماعات تريد حل أزماتها على أنقاض جثة السوري وصراع دولي وإقليمي يهمّش من قدرات السوري على أخذ زمام المبادرة …………. يتبع
أحمد الجربا – رئيس تيار الغد السوري
اقرأ أيضاً…. ماذا يمكن للسوري أن يفعل الآن؟.. الجزء الأول
اقرأ أيضاً…. ماذا يمكن للسوري أن يفعل الآن؟.. الجزء الثالث