دائما يكون السؤال هو من أين نبدأ؟.. قد يبدو سؤالا سابقا لأوانه في ظل غياب أي أفق لانتهاء الحرب العالمية التي تدور رحاها على أرض بلادنا ووقودها أبناء البلد وشجرها وحجرها، لكنه يبقى سؤالا ضروريا وحتميا لأن الشعوب التي نهضت من رماد الحروب لم تعمل دون خطط وأبحاث وتنظيم على إعادة بناء ما دمرته الحرب ماديا ومعنويا.
ولا يمكن فصل ترميم الدمار الروحي والمعنوي عن ترميم العمران والصناعة والزراعة والسياحة، لكن لا بد من التأكيد على أولوية إعادة بناء الإنسان السوري لاستعادة وطنيةً تعرضت للتنكيل قبل الثورة بلا ضجيج ولا دماء، أو بالقليل من الدماء مقارنة بالمقتلة الدائرة على أرضنا، ثم تعرضت هذه الوطنية خلال سنوات الحرب الداخلية المدارة إقليميا ودوليا الى قصف مركز من قبل أكثر من طرف، حتى كادت أن تتحول الى شظايا ليس من السهل لملمتها واعادة وصل شرايينها.
قبل 15 آذار كانت النزعة البعثية بطبعتها الأسدية تحاول تطويع الوطنية السورية لصالح عروبة شعاراتية تعيد انتاج مآسٍ تتعيّش على الضجيج القوموي، عروبة مزيفة، غير حقيقة، أضعفت العرب قبل غيرهم، حاولت تغيير الجغرافيا وطمس التاريخ بشتى الوسائل، وهكذا ادخلت كلمة عربية عنوة في اي عنوان وطني سوري وقام النظام بتغيير اسماء الكثير من المعالم والمدن والقرى، بل وحتى الأندية الرياضية لم تنجو من غوغاءهم “النادي الأهلي في حلب تم تبديله بنادي الاتحاد” واختفى أسماء الزعماء البارزين في التاريخ “سلطان باشا الأطرش، أصبح أشبه بالممنوع، وشكري القوتلي وهاشم الأتاسي وبدوي الجبل وفخري البارودي ونجيب الريس والقائمة تطول” من الشوارع والساحات وكتب التاريخ والمهرجانات ليحل محلها الأسد و”إنجازاته” التي دمرت البلاد وأنجاله بألقابهم التي تثير السخرية أكثر من كل شيء” الفارس الذهبي والدكتور الماسي” واختزل الادب والفن وكل فروع الابداع الى بيانات تمجد شخص الديكتاتور وعائلته، وتحفل بشوفينية وعنصرية مقيتة ،لا حدّ لها.
بعد 15 اذار سارعت بعض القوى الاقليمية الى ركوب موجة النهوض الشعبي السوري في مواجهة الاستبداد، وحولت المواجهة بين شعب يطالب بحقه في الحرية وبناء الدولة المدنية، دولة العدالة والمساواة والقانون، وبين سلطة لم تتعود ان ترى “شعبها” يعترض ولو على تسعيرة النقل او الوقود او الخبز، فكيف به وقد خرج بالآلاف مطالبا بحقه في اختيار حكم يليق بتاريخه ومستوى وعيه.
نجحت هذه القوى وبتواطؤ نشط ومخلص من النظام في جرّ الثورة إلى حيث تريد، صراع طائفي مسلح لا يبقي ولا يذر، الأمر الذي يهدد بتذرير الوطنية السورية التي كانت ما تزال تتكون بعد الاستقلال قبل ان تلجمها وتشوهها انقلاب الأسد الأب في العام 1970.
نرى إن البداية ستكون حكما في محاولة ترميم هذه الوطنية، بإعادة الثقة بين مكونات الشعب، وبنشر ثقافة التسامح المقترن بالعدالة، اي عدم تحميل اي جريمة حصلت خلال سنوات الحرب لجماعة، وإنما لأفراد بعينهم تقوم سلطة قضائية عادلة ومستقلة ونزيهة بمساءلتهم واقرار العقاب العادل بحقهم، ثم يبدأ الانطلاق في ورشات اعمار متعددة ومتشابكة باتجاه بناء سوريا لكل السوريين، باختلاف انتماءاتهم وطبقاتهم.
لا يمكن بأي حال البوح بالتقديرات المبالغ فيها، المورثة للخيبة، كما درجت العادة عند الكثير من النخب السياسية السورية، فلا يمكن توقع تغيير ديمقراطي لاحق مباشرة لوقف الحرب والدخول في عملية الحل السياسي، رهاننا هو أولا وقف الكارثة ومن ثم الانتقال إلى المرحلة الأولى للتغيير السياسي الذي يتعين أن تتشارك بتحققه كل القوى والتنويعات الاجتماعية والدينية والطائفية، وهو نقل الوطن السوري إلى أوضاع سياسية تقبل الإصلاح والبناء عليها وتستجيب بمرونة لتطلعات السوريين وإعادة بناء الاجتماع السياسي بعد أن خربتها السلطة الحاكمة منذ عقود، وبناء نخبة سياسية تعتبر السياسة نمط حياة وليست مصدرا للحياة، أن تعيش السياسة لا أن تتعيش منها، كما حال الكثير من النخب الموجودة حالياـ سواء من طرف النظام، وهذا بديهي، أو في أطراف المعارضة التي هي صاحبة المصلحة في ممارسة السياسة لا التعيش منها.
ستكون لمهام إصلاح التعليم والقضاء والإعلام وإعادة تعريف قطاعات الأمن والشرطة على أسس جديدة تنقل بها من حالة العداء للمجتمع إلى خدمة المجتمع ولعل أصعب المهام تتمثل في إعادة بناء الجيش ونقله من كنهه كجيش عقائدي مهمته الدفاع عن النظام إلى جيش وطني مشغول بالدفاع عن الوطن والمساهمة في بناءه.
مهام كثيرة تنتظر النخب السورية للتداول حولها للوصول إلى رؤية تساعد الجميع في فهم آليات فك هذه المحنة، وطرح البدائل للحالات التي تنعش الحرب والدماء والمهاجرين والخراب، نعم إن البداية تأتي من طرح فكرة البناء والتوقف تماما عن الاستمرار في نهج تبرير الحرب أيا كانت اللحظة، لا توجد برهة واحدة يكون فيها قتل النفس البريئة مبررا، هذا ما تقوله الأديان جميعا، وهذا ما تقوله الشرائع الدينية والإنسانية. نعم التوقف عن مواصلة مديح الحرب وأحقيتها إلى طرح مشاريع البناء ووصل ما انقطع مجتمعيا هو المعبر الوحيد للخروج وكل ما عداه هي تفاصيل مؤلمة لإطالة الطريق للوصول إلى هذا الحل، هذا ما حدث في سيراييفو وهذا ما حدث في كل مناطق النزاع في العالم وما سيحدث، أمريكا بكل قوتها بدأ تاريخها بعد حرب أهلية طويلة انتهت حين بدأوا بالحديث عن البناء.
أما السؤال، كيف ستنتهي هذه الحرب وما هو مصير الأسد؟!
سؤال عريض ـ السؤال الخاص بطريقة إنهاء الحرب، وأما مصير الأسد فهو فاصلة صغيرة في سياق التصميم والإرادة في إنهاء هذه المقتلة، فقد بلغ بشار الأسد مبلغا من الضآلة لم يبلغه رئيس سوري عبر التاريخ، إذ تحوّل هذا الشخص ومنذ اللحظة التي أمر فيها الجيش بالنزول إلى الشارع ومواجهة المظاهرات السلمية المطالبة برحيله وتوجيه بندقية الجندي السوري إلى صدور أهله، إلى قائد ميليشيا صغير، لا يستطيع السيطرة على باقي الميليشيات التي هي أكثر قوة وانسجاما مع نفسها من ميليشياته وجنرالاته، وبمقارنة بسيطة بينه وبين حسن نصر الله، رئيس ميليشيات حزب الله الشيعية، نرى إن الكفة تميل للأخير، فيما يفقد بشار الأسد أي معنى لوجوده أو طاقة لاستمرار وجوده مع اللحظة التي يتوصل فيها السوريون وبرعاية دولية وإقليمية إلى شرط إلزامي بإخراج الميليشيات الأجنبية من سوريا، حينها لن يكون حال بشار أفضل من حال أبي بكر البغدادي وسيكون أمر رحيله من أهون المصائر أمامه، إذ ستنتظره محاكم الدولة الجديدة ونخبتها ومحاكم العالم على الجرائم التي تسبب بها وكان المسئول عنها، ولا نعتقد إن الحكومة الإيرانية ستتحمل أعباء استقباله، فهو شخص وليس فكرة أو مشروع ولم يدخل الحرب كمشروع عام للدولة أو لطرف مجتمعي، لا يمثل الطائفة العلوية وكل من يقول بذلك وإنما يتقصد الحط من قدر الطائفة العلوية التي هي نسيج مهم من المجتمع السوري المتعدد وإنما دخل ” هذا البشار “كمشروع شخصي للحفاظ على الحكم ولم يكذب أنصاره حين رفعوا شعار ” الأسد أو نحرق البلد”.
أما كيف نستطيع وقف هذه الحرب؟!
الطريق إلى الحرب أسهل من الطريق إلى السلم، بما لا يُقارن، هكذا جبلت الطبيعة البشرية، منذ سيدنا آدم عليه السلام وحتى يومنا هذا، غواية الشيطان أكثر سلاسة وجذبا للوقوع فيها، هكذا جبل الله الإنسان من إغراءات ” النفس أمارة بالسوء”، وعلى نفس المنوال، لم يكن قرار اللجوء إلى السلاح قرارا سوريا في يوم من الأيام، لم يفكر متظاهر واحد من الذين واجهوا بصدورهم العارية كل حقد زبانية النظام بأسلحتهم القاتلة بحمل السلاح في وجه شقيقه السوري، أذكر هنا ذاك الصوت الذي تعالى في الأشهر الأولى، ذاك الهدير السوري العذب كشلال ماء في صحراء ” واحد واحد واحد الشعب السوري واحد” ، ” سلمية سلمية ” القتل بعيد كليا عن ثقافة السوريين وتلك كانت نقطة ارتكاز النظام طوال أربعة عقود من عمره، أقتل ببطء وإن استدعت الحاجة سرّع من منوال القتل، حصل ذلك في أكثر من مناسبة في سوريا ولبنان، وأصابته هستيريا الجنون حين رأى السوري المسالم يخرج ويطالبه بالرحيل، حينها اجتمع مع زبانيته وقرر ما قرره نيرون الذي أحرق روما، هكذا بدأ الحريق الذي أنهى عقودا من حكم العائلة، الحريق الذي ما زال يحصد من أرواح السوريين وأحلامهم ولكنه أنهى الأسد وحكمه إلى حيث لا عودة.
أحمد الجربا – رئيس تيار الغد السوري
اقرأ أيضاً…. ماذا يمكن للسوري أن يفعل الآن؟.. الجزء الأول
اقرأ أيضاً…. ماذا يمكن للسوري أن يفعل الآن؟.. الجزء الثاني