د. محمد خالد الشاكر
مخطط البحث
مقدمة
أولاً- الجيل الأول: سيد قطب و فكرة العدو القربب ( إشكالية القياس على المجتمع الوثني عند المودودي).
ثانياً- الإسلام السياسي و “الثورة الإسلامية في إيران” 1979: مبدأ الدولة الإسلامية الجامعة والجهاد المستمر.
ثالثاً- الجيل الثاني- تنظيم القاعدة المركزي، وفكرة العدو البعيد.
رابعاً- الجيل الثالث – ” الدولة الإسلامية في العراق”.
خامساً- الصراع في سورية وولادة تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق ( داعش).
خاتمة
مقدمة
تنطلق جميع حركات الإسلام السياسي – كمصطلح معاصر- من فكرة ” العدو القريب”، التي تعود في جذورها لمفهوم الحاكمية الذي أسسه الإسلامي الهندي أبو الأعلى المودودي ( 1903- 1979) (1)، وتبناه من بعده سيد قطب ( 1906- 1966) الذي يعتبر المنظر الأهم لفكر جماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص، ولجميع حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي بشكل عام .
أخذ سيد قطب من المودودي فكرة الحاكمية، إذ يعد الأخير من أكبر المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث والمنظر الأول لما يسمونه بـ”الإسلام السياسي” والمدبر الفكري للحركات الإسلامية المعاصرة(2) .
ولدت فكرة الحاكمية التي ساقها المودودي فى ظرف تاريخى و سياسى قرن بين مفهوم الحاكمية، ومفهوم جاهلية المجتمع الذى كان متسقا من وجهة النظر الإسلامية مع ظروف المجتمع الهندوسى الوثنى، وأنْ لا حكم لرجال وثنين على أغلبية المجتمع المسلم، وفي هذا الخصوص يؤكد المودودي ذلك بقوله:” إن السيادة أو الحاكمية هي لله وحده بيده التشريع، وليس لأحد-وإن كان نبياً- أن يأمر وينهي دون أن يكون له سلطان من الله” ويقول أيضا: ” إن التوحيد ينفي فكرة حاكمية البشر، ويريد القضاء عليها قضاء مبرماً، سواء أكانت هذه الحاكمية لفرد من الأفراد، أو طبقة من الطبقات، أو بيت من البيوت، أو أمة من الأمم، أو لجميع من على ظهر الأرض من أبناء البشر، فالحاكمية – حسب المودودي- لا يستحقها إلا الله وحده عز وجل، فلا حاكم إلا الله ولا حكم إلا حكمه، ولا قانون إلا قانونه، وكان ذلك بالطبع قبل انفصال الهند عن الباكستان، ولما انفصلت الباكستان فى كيان سياسي مستقل توارى مفهوم جاهلية المجتمع الهندي تماماً من فكر المودودي، بينما ظلت الحركات الإسلامية في الدول العربية تتبناه كنهج فكري إلى يومنا هذا، فقد تحالف المودودي مع حزب الرابطة بقيادة”علي جناح” مؤسس دولة باكستان الحديثة، بالرغم من أنّ الأخير إسماعيلي العقيدة، و علماني الفكر والتصور، ثم تحالف مع “فاطمة جناح” في الكتلة البرلمانية المعارضة، ثم توالت تحالفات الجماعة الإسلامية إلى عهد نواز شريف، وهكذا تكّون وتجلى مفهوم الحاكمية عند المودودي في جانبيه النظري والتطبيقي حيث أسهمت الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية الحرجة التي مرت بها دولة باكستان في مرحلة تأسيسها في بلورة مفهوم الحاكمية وتطوره من مفهوم سكوني إلى مفهوم حركي بممارسات عملية تجلت فيها مقاصده من مفهوم الحاكمية وأنها في النهاية ممارسات بشرية اجتهادية واقعية ولكنها مؤطرة بإطار شرعي إلهي(3).
أولاً- الجيل الأول: سيد قطب فكرة العدو القريب ( إشكالية القياس على المجتمع الوثني حسب المودودي).
استنسخ سيد قطب فكرة المجتمع الجاهلي كما هو عند المودودي فى الفترة الهندوكية، لذلك نقل فكرة المجتمع الوثني إلى مجتمع مسلم، كما هو الحال في مصر والدول العربية.
اعتبر قطب أنّ العالم اليوم بما فيه العالم الإسلامي يعيش جاهلية مدمرة شبيهة بتلك التي كانت قبل الإسلام، إلا أنّ قطب أعطى لطروحات المودودي بعداً حركياً وذهب بها إلى المدى الأقصى، فحكم بدون تردد بكفر الأمة وليس المجتمع وحده والدولة فقط، شاملاً الحاضر وأربعة عشر قرناً من الماضي، ولم يستثنَ إلا الخلافة الراشدة في عهديها الأولين، وفي ذلك يقول قطب: ” ليس على وجه الأرض مجتمع قرر فعلاً تمكين شريعة الله وحدها ورفض كل شريعة سواها، فالأمة الإسلامية انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق الأرض” ويقول: “إن الناس ليسوا مسلمين كما يدعون، وهم يحيون الحياة الجاهلية.. هذا ليس إسلاماً وليس هؤلاء مسلمين، والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام ولتجعل منهم مسلمين من جديد، لهذا دعا قطب إلى ما أسماه” إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها”، وفي سبيل ذلك يقول قطب: “لا بد من تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض، ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانه.. ولكنها تقوم بانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد، ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وإلغاء القوانين البشرية”(4).
تبنى الجيل الأول من حركات الإسلام السياسي، أفكار سيد قطب، الذي يرى “أن الإسلام مهمته تغيير الواقع، وأن التوحيد بمنزلة الثورة على الطغاة، و أن الخضوع للاستبداد يعد شركاً”(5).
أسس قطب لمبدأ “الحاكمية لله” مع ملاحظة الفروق الجوهرية بين فكرتي الدعوة، والحاكمية، حيث تهتم الأولى بالمجتمع وتوعيته وإرشاده، بينما تقفز الثانية فوق المجتمع لتطالبه بالتغيير القسري والمباشر لشخص الحاكم بدءً من تكفير الأخير وإقصائه، واتهام المجتع الذي لايثور عليه بالشرك.
شكلت فكرة الحاكمية الأساس الذي نشطت به تنظيمات الجيل الأول منذ منتصف السبعينيات وحتى نهاية التسعينيات مستندة في ذلك على أفكار سيد قطب في حربٍ مازالت ممتدة مع العدو “القريب”، في الوقت الذي أحجمت فيه عن الصراع المباشر مع الغرب ( العدو البعيد).
اللافت في ذلك، تعارض هذه الفكرة مع قناعات الجيل الثاني لحركات الإسلام السياسي متمثلاً بتنظيم القاعدة المركزي بزعامة أسامة بن لادن، الذي جاء بتنظيمه من رحم التجاذبات الدولية، التي ولدت من فكرة العدو البعيد” أو ما يسميهم بـ ” اليهود والصليبين”، إذ جاءت أفكار بن لادن في خضم مجريات الحرب الباردة بين الدولتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، فزج تنظيم القاعدة في الصراع الدولي في حرب أفغانستان، وابتعدت القاعدة بعض الشيء عن فكرة العدو القريب ( الحاكم والمجتمع)، ولم تعد مسألة المجتمع ذات أهمية في خضم صراع محموم على مناطق النفوذ في العالم، بالرغم من ارتكاز أسامة بن لادن على شخصيات قيادية من تنظيم الإخوان المسلمين أمثال أيمن الظواهري وعبد الله عزام.
على هذا الأساس، يرى بن لادن أن فكرة العدو القريب – بما فيهم الحكام القوميين- فكرة تبعد الناس عن الجهاد وتنفرهم منه، لذلك حذر بن لادن من فكرة إنشاء كيان جغرافي تحت مسمى “دولة” أو ” أمارة”، في حين أصبحت مسألة تأسيس هذه الدولة أو الأمارة بمنزلة الحلم لدى الجيل الثالث، كما حصل مع أبي بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق(6).
ثانياً- الإسلام السياسي و”الثورة الإسلامية في إيران” 1979: مبدأ الدولة الإسلامية الجامعة والجهاد المستمر.
شكل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، نموذجاً زاد من وهج حركات الإسلام السياسي وقدرتها في الجهاد المستمر لتأسيس دولة الخلافة، كمبادئ تضمنها الدستور الإيراني، وكقناعات دافع عنها الخميني بشدة، حين اعتبر أنّ ثورته ثورة عالمية في مواجهة الأنظمة الاستبدادية في العالم.
منذ أيامه الأولى، انفرد الخميني بإيديولوجيا خاصة، فرضها – بادئ ذي بدء- بصياغة الدستور الإيراني، فواجه الكثير من الانتقادات التي وصلت إلى حد الخلاف مع المقربين منه في الثورة، لاسيما مع إصرار الخميني، على أدلجة الدستور الإيراني، عندما أصرّ على وضع المادة 107 التي تنص: ” يعد المرجع المعظم و القائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية، ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني، الذي اعترفت الأكثرية الساحقة للناس بمرجعيته وقيادته”، وهو ما يتعارض مع احترام دساتير الدول الأخرى، كما يشكل انتهاكاً صريحاً وواضحاً لمبدأ عدم التدخل في شؤون الغير، كمبدأ متأصل وراسخ في القانون الدولي العام.
شكلت البنية الدستورية للنظام الإيراني السياسي، مدخلاً أراد منه الخميني شرعنة تدخلاته في المنطقة، والاستمرار بها كحروب مقدسة، وفي هذا الخصوص، يقول حجة الإسلام محمد مهدي بهداروند: “إن استراتيجية الخميني، تتركز في تحويل الحرب العراقية الإيرانية إلى حرب مقدسة، فشعار حرب حتى النصر، هو من أجل بسط الخلافة الإلهية، لأنه بدون الجهاد لن ينتشر التوحيد في العالم”.
التقت أفكار الخميني مع أفكار حركات الإسلام السياسي، التي طرحت فكرة الحاكمية ذاتها، في استنساخ جديد لفكرة “الولي الفقيه”، التي تأسست عليها الثورة الإيرانية، التي باركتها حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي، وبادلتها إيران بالترحيب، فعقدت المؤتمرات الدورية التي تشيد بفكر سيد قطب، وأطلقت إيران على أكبر شوارعها في طهران أسماء لقيادات إخوانية، كشارع سيد قطب، وشارع خالد اسلامبولي.
روّج الخميني لفكرة امتداد “الدولة الإسلامية” من خلال شعاره الشهير ” الطريق إلى القدس يمر من بغداد”. الفكرة ذاتها استقاها أيمن الظواهري، أبان قيادته لتنظيم الجهاد المصري- في مقالة شهيرة عنوانها ” الطريق إلى القدس تمر من القاهرة”(7)، في محاكاة لفكرة التكفير التي رفعها الخميني.
التحول الأبرز في تاريخ الحركات الجهادية، كان مع خروج عناصر تنظيم القاعدة من أفغانستان، وانتشارهم في بؤر الصراع في المنطقة العربية على وجه التحديد، مستفيدين من التحولات التي طرأت بعد احتلال العراق، حيث ظهر التحول الكبير، الذي تبلّور فيه الانفصال عن أفكار وعقائد تنظيم القاعدة المركزي، كعملية شكلت حالة من التشظي الذي أفرز أجيالاً جديدة تراوحت في مسمياتها بين التنظيمات، والجماعات، والمجموعات، والجبهات، والحركات والأفراد.
في العراق خالف أبو مصعب الزرقاوي شيخه بن لادن، الذي رفض بسبب تجاذبات صراع الحرب الباردة، فكرة العدو القريب، لكن الأمور كانت قد خرجت من يد الزعيم الروحي لتنظيم القاعدة المركزي، ودب الخلاف الحاد بين الاثنين، تمخض عن ذلك إعلان الزرقاوي تنظيم الدولة الإسلامية في بلاد الرافدين، حيث ركز الزرقاوي على قتال الطوائف المخالفة، التي شكلت مدخلاً لحالة الفوضى في العراق، كما شكلت مقدمة لقتال المجموعات السنية التي رفضت الولاء لدولة الخلافة، مما فتح الباب لإيران في تطييف وتعقييد الحالة العراقية بعد الاحتلال، وتحويله إلى حالة من الفوضى، سحبت البساط من تحت أقدام الأمريكيين أنفسهم، قبل أن تتفرد إيران في الشأن العراقي، إلى الحد الذي جعل من العراق أقل من ولاية إيرانية، يقودها معارضون عراقيو الجنسية، بولاء طائفي مطلق، حتى أن غالبيتهم كانوا من الجنود الذين قاتلوا ضد الجيش العراقي، في الحرب الإيرانية- العراقية.
ثالثاً- الجيل الثاني- تنظيم القاعدة المركزي، وفكرة العدو البعيد.
نهاية التسعينيات دعا الجيل الثاني لحركات الإسلام السياسي، ممثلاً بأسامة بن لادن إلى إلى تأسيس “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبين”، التي شكلت منطلقاً لعقيدة تنظيم القاعدة بشكل رسمي، فانضم إليها القيادي الإخواني أيمن الظواهري قائد تنظيم الجهاد المصري، كأحد رموز الجيل الأول لحركات الإسلام السياسي، التي انضوت تحت تنظيم القاعدة المركزي.
وجد الظواهري معارضة شديدة من أنصار تنظيم الجهاد، الذين رفضوا تحوله من جهاد “العدو القريب”، إلى جهاد “العدو البعيد”، لاسيما وأن أسامة بن لادن عارض طيلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي قتال المسلم للمسلم بمن فيهم الحكام القوميون متأثراً بأفكار أستاذه عبد الله عزام، حيث اعتبر أسامة بن لادن أن التوجه إلى العدو القريب فيه إضرار بالجهاد والمجاهدين، إذ يؤدي إلى تنفير الناس من الحديث عن الجهاد، وخسارة تعاطف الرأي العام، وكان بن لادن قد ذكر مراراً ” أن الجماعات المجاهدة التي أصرت على البدء بالعدو الداخلي قد تعثرت مسيرتها، ولم تحقق أهدافها كإخوان سورية وليبيا والجزائر”، كما لم يكن بن لادن مولعاً بفكرة تأسيس دولة أو أمارة على كيان جغرافي محدد، فقد كشفت الوثائق التي وجدت في منزله العديد من المحادثات التي جرت بينه وبين قادة التنظيم في جزيرة العرب، أظهرت عدم رغبته بإنشاء إمارة إسلامية في اليمن، تكون منطلقاً للتوسع نحو الخليج، و أظهرت هذه الوثائق معارضة بن لادن لهذه الفكرة، وتأييده لفكرة التركيز على عدو اليمن الخارجي، ومحاولة كسب رضا السكان المحليين والقبائل، منتقداً العمليات ضد القوات اليمنية في كل من مأرب وعتق.
وفي هذا الخصوص يقول بن لادن: “أن أثر الدم في المجتمعات القبلية عظيم، ولانريد أن نكون كالذي يبني في مجرى سيل، فإذا سال اجتاح ذلك البناء وأسقطه، ثم إذا أردنا بناء البيت ثانية، نفر الناس وانفضوا عن مساعدتنا”، ما يعني أن بن لادن لم يكن مؤيداً لفكرة إنشاء الدولة وكانت لديه حساسية تجاه هذه الفكرة، ما لم تكن بإرادة ورضا السكان المحليين(8).
وعلى هذا الأساس لابد لنا أن نطرح العديد من التساؤلات حول منشأ وارتباط أجيال الجيل الثالث، أي “الدولة الإسلامية في العراق”، ومن بعدها “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، ومدى علاقاتهم الفعلية بتنظيم القاعدة المركزي، الذي تحول بعد الخروج من أفغانستان إلى حصان طروادة الذي اشتغلت عليه قوى إقليمية مستفيدة من تثوير الصراعات الطائفية والإثنية، كوسيلة لإيجاد موطئ قدم لها في الصراعات الداخلية الدائرة في المنطقة العربية، إلى الحد الذي أصبح معه الحديث عن قواعد بدل “القاعدة” الواحدة، وتنظيمات متعددة ومتنافرة في المرجعيات والتمويلات والاختراقات.
رابعاً- الجيل الثالث – ” الدولة الإسلامية في العراق”.
لابد للباحث في الحركات الإسلامية، التوقف عند مسألة في غاية الأهمية، تتجاوز تناول ظاهرة التحول في أجيال الإسلام السياسي- كقراءة تاريخية- بقدر ما تتناول الفوارق الجوهرية التي وصلت إلى حد الاختلاف والتناقض بين مرحلة النشوء ومراحل التحول، الأمر الذي يضعنا أمام إشكالية البحث عن الفواعل التي تقف وراء هذا التحول الكبير في الفكر الجهادي في مرحلة مابعد أفغانستان، غير متناسين مسألة في غاية الأهمية تطرح تساؤلات أخرى تتعلق بمدى قدرة أشخاص من داخل هذه التنظيمات التمرد السريع على عقيدة الولاء والبيعة، كمبدأ أساسي داخل هذه التنظيمات، وصعوبة الخروج عن الزعيم الروحي أو الانشقاق عنه، كما في حالة خروج أبي مصعب الزرقاوي على أسامة بن لادن.
الاختلاف ذاته، لم يمنع زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري من مبايعة أبي بكر البغدادي كخليفة للمسلمين، بالرغم من قناعات البغدادي الراسخة في فكرة العدو القريب، التي لم يتبناها بل ورفضها زعيم تنظيم القاعدة المركزي أسامة بن لادن وكان قد أيده فيها الظواهري.
تناقضات تضع البحث أمام تساؤلات أخرى، حول عقيدة هذه الحركات في سياقها الفكري الموحد، وأسباب تشظياتها وتحولاتها حسب التجاذبات السياسية. كما التساؤلات حول الجهات المستفيدة من هكذا تحولات، والجهات التي تقف وراء تمويل المنشق، أو الخارج عن البيعة، وتأمين الملاذات الآمنة للقيام بعملياته وتحركاته، خصوصاً وأنّ آلية عمل هذه الحركات تحتاج إلى الأموال الطائلة، كما تحتاج إلى الدعم اللوجستي، كتكاليف وآليات لا يستطيع تحملها شخص بمجرد إعلان انشقاقه – بين ليلة وضحاها- عن تنظيمه المركزي.
في العام 2000 اعترف أحد قيادي القاعدة، في أحد جلسات محاكمته في نيويورك، بأنه قام بمهمة ترتيب لقاءات بين بن أسامة بن لادن، وعماد مغنية، المسؤول العسكري الأبرز في حزب الله، حيث تم اللقاء في السودان، معترفاً أن إيران قامت بتدريب عناصر من القاعدة والجهاد الإسلامي في مصر، على كيفية استعمال المتفجرات.
في العام 2001 قامت الحكومة الإيرانية بإرسال وفداً إلى أفغانستان، للتوسط بضمان السفر الآمن لقيادات القاعدة وعائلاتهم إلى إيران، فعملت الأخيرة على نقل العديد من مقاتلي القاعدة بينهم قيادات من الصف الأول من تنظيم القاعدة، قبل أن تنجح بتأسيس فرع خاص بها في طهران عام 2002 لدعم التنظيم في أفغانستان وباكستان.
تقود حيثيات الحكم الصادر من محكمة واشنطن في العام 2011، بشأن تفجيرات نيروبي ودار السلام، أنّ إيران ومنذ العام 1998 قدمت مساعدتها للقاعدة، وأنّ أعضاء بارزين فيها، بينهم “سيف العدل”، المسؤول العسكري السابق للتنظيم، قد حصلوا على تدريبات في معسكرات لحزب الله في جنوب لبنان.
كان حرس الثورة الإيرانية الجهة المسؤولة عن المجلس التأسيسي للقاعدة في إيران. و يشير خبراء في شؤون الشرق الأوسط إلى أنه وعقب الاجتياح الأمريكي لأفغانستان عام 2001 لم تفر عناصر القاعدة وعائلاتها إلى باكستان فقط، بل هرب المئات من أعضاء التنظيم وأسرهم إلى إيران، وهو ما أكده خبراء أمريكيون بشؤون القاعدة، الذين أكدوا إنّ الإيرانيين خلال عام 2009 و2010 قاموا بتخفيف قيود الإقامة الجبرية عن قيادات في تنظيم القاعدة، على ألاّ يخططوا لعمليات انطلاقا من إيران أو داخل الأراضي الإيرانية.
وفي علاقة تبادلية في المصالح، حصل عناصر القاعدة من خلالها على حرية التحرك التي تخولهم جمع التبرعات والاتصال بالخلية المركزية في باكستان وتنظيمات أخرى تابعة للقاعدة في دول أخرى. ويلفت خبراء أمريكيون، أنّ السلطات الإيرانية كانت قد سمحت لمقاتلي القاعدة بعبور الأراضي الإيرانية، وهو ما أكده الرئيس السابق لإدارة مكافحة الإرهاب في المخابرات البريطانية ريتشارد باريت، الذي قال في تصريح لوكالة رويترز: ” كانت هناك تحركات كثيرة بين العراق وباكستان ولا أستطيع أنْ أتصور أنّ الإيرانيين لا يعلمون بها “.
لقد أصبحت فروع تنظيم القاعدة، تتفوق في سياساتها ودعمها اللوجستي على تنظيم القاعدة المركزي، مما يعني بداية النهاية لتنظيم القاعدة كتنظيم عالمي، وتحول جماعاته إلى مجموعات بأجندات متعددة، و ايديولوجيات مختلفة، وتمويلات لا قِبَل لعناصر التنظيم من معرفتها أو إدراكها.
هكذا استطاعت إيران من إعادة تدوير تنظيم القاعدة إلى مجرد ظاهرة مستهلكة، لتحل محلها الدولة الإسلامية في العراق، التي أصبحت فيما بعد “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ( داعش)، بما لها من دور يتركز اليوم في قلب الصراع الدولي والإقليمي في سوريا.
خامساً- الصراع في سوريا وولادة تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق ( داعش).
أدى تعقيد الصراع في سوريا إلى بروز صراعات وأخطار جديدة، كان وراءها محاولات القوى الدولية والإقليمية إيجاد حالة من التوازن على الأرض، بما يؤمن إطالة أمد الصراع، الذي يستنزف كامل المنطقة العربية دون غيرها.
برز ذلك من خلال سياسة الانكفاء الأمريكي، بالتزامن مع الدورين التركي والإيراني، الذي أفرز محورين أحدهما سني تقوده تركيا، وآخر شيعي تقوده إيران، ما أدى إلى تعقيد وتعويم الحالة السورية، التي استنزفت طرفي المعارضة والنظام، الأمر الذي مهد لبروز ظاهرة تحرير مناطق بعينها، دون أنْ تستكمل قدرتها في السيطرة إدارياً وأمنياً، فأصبحت تلك المناطق أرضاً رخوة تحت أقدام المعتدلين، وجغرافية جاهزة لولادة الدولة الإسلامية كدولة تتأسس في الفراغ.
وجدت تركيا – كراعية لحركات الإسلام السياسي- في الأوضاع الراهنة أمامها، حالة دينامية جاهزة، تبنت من خلالها الإخوان المسلمين في سوريا، كنموذج يعطيها تمدداً داخل المنطقة، كما يعوضها انسداد بوابة الغرب عليها، فوجدت في احتجاجات الشارع العربي مقاربة قادرة على تحقيق استراتيجياتها الاقتصادية والسياسية، بالاستفادة من الحركات الإسلامية، التي “كانت تخسر في كل مرة رهان الوصول إلى السلطة”(9). لاسيما وأنّ الحركات الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان المسلمين كانت قد وضعت نفسها – منذ مايقارب قرن من الزمن- كمدافعة عن قيم المجتمع، ومن هنا نشأت إشكالية “الخلاف حول شرعية السلطة، وبالتالي أصبح الصدام حتمياً لامفر منه”(10).
خاتمة
تبدو فكرة الحاكمية التي أسسها المودودي، منهجاً فكرياً في سياق واحد، بالرغم مما انتابها من تحولات وتشظيات في سياق ظل محكوماً بالتجاذبات السياسية في المنطقة، كما ارتهانه بالانقسامات والاختلافات من جهة، أو التمويه والتخفي بأسماء أخرى في إطار عملية التمكين التي انتهجتها غالبية حركات الإسلام السياسي.
المتفق عليه، أنّ جميع هذه الحركات، لم تخرج حتى هذه اللحظة من الفكرة جاء بها المودودي في الهند، وتبناها سيد قطب في مصر فالمنطقة العربية، بدءً من جماعة الإخوان المسلمين، التي أفرزت قيادات إسلامية وجهادية، شكلت المرجعية الأهم والعمود الفقري لجميع حركات الإسلام السياسي، لأهم لجميع الحركات الجهادية.
لقد أدى نقل فكرة الحاكمية التي جاء بها المودودي إلى المنطقة العربية، نقلاً تجاوز الظروف والأسباب التي ولدت فيها هذه الفكرة، كما تجاوز الزمان والمكان الذي ولدت فيه في المجتمع الهندي، مع افتراق واضح مؤداه اختلاف الظروف الموضوعية، والبنى الثقافية داخل المجتعمات العربية الإسلامية، ماجعل من فكرة قطب جسماً غريباً قياساً في الزمان والمكان الذي ولدت فيه أفكار المودودي ومجتمعه الوثني حينها، ولعل مايؤكد هذه الفرضية موات فكرة الحاكمية لدى المودودي في مهدها، مع دخول الأخير السلطة بعد استقلال باكستان عن الهند، في الوقت الذي مازالت فيه المنطقة العربية تدفع ثمنها صراعات داخلية منذ مايقارب المئة عام من الزمن، حيث لم تنفك جميع حركات الإسلام السياسي وتفريخاتها، تتبنى فكر المودودي في الحاكمية وقيام الدولة الإسلامية بدءً من الإخوان المسلمين وانتهاءً بما يعرف بـ “تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق”.
الهوامش_________________________________________
- ولد أبو الأعلى المودودي في حيدر أباد من أسرة هندية مسلمة محافظة اشتهرت بالتدين والثقافة. لم يعلمه أبوه في المدارس الإنجليزية واكتفى بتعليمه في البيت. درس على أبيه اللغة العربية والقرآن والحديث والفقه وكانت اسرته اسرة علم وفضل. بدأ المودودي العمل في الصحافة. وأصدر مجلة ترجمان القرآن عام 1351 هـ. والمجلة تصدر حتى يومنا هذا. أسس الجماعة الإسلامية في الهند وقادها ثلاثين عاما ثم اعتزل الإمارة لأسباب صحية وتفرغ للكتابة والتأليف، اعتقل في باكستان ثلاث مرات وحكم عليه بالإعدام ثم خفف حكم الإعدام إلى السجن مدى الحياة نتيجة لردود الفعل الغاضبة والاستنكار الذي واجهته الحكومة آنذاك ثم اضطروا بعد ذلك إلى إطلاق سراحه. كما تعرض المودودي لأكثر من محاولة اغتيال. وهو صاحب فكرة ومشروع إنشاء الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وبعد إنشائها صار عضوا في مجلس الجامعة. وكان عضوا مؤسساً في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وله من المؤلفات الكثيرة عدها بعضهم فتجاوزت الستين كتابا. توفي ودفن في ساحة منزله بمدينة لاهور الباكستانيةhttps://ar.wikipedia.org/wiki/%
- الإمام أبو الأعلى المودودي، ويكيبديا الاخوان المسلمين http://www.ikhwanwiki.com/index.php?
3. محمد أحمد فرحات: مفهوم الحاكمية الجذور لدى المودودي وسيد قطب http://elbadil.com/2013/01/01/
4. المرجع ذاته.
- أبو بكر الدسوقي، ” إشكاليات الانتقال في أجيال العنف”، مجلة السياسة الدولية، العدد 198، ( القاهرة: مركز الدراسات الاستراتيجية والسياسية بالأهرام، 2014)، ص 68، 69.
- المرجع ذاته.
- المرجع ذاته، ص 68.
- المرجع ذاته.
- د. عادل سمارة، ” تركيا.. عدو تاريخي ووكيل للمركز ضد الأمة العربية”، تحولات مشرقية، العدد 1، ( بيروت: مؤسسة سعادة للثقافة، 2013)، ص 122،123.
- Kurtcam Bell, Globalization,s First War ? The Washington Quartely, Winter 2002, Washington,pp 16,18