جديد مكتب الدراسات والبحوث: علمانية الإسلام

علمانية الإسلام بقلم: الشيخ رياض درار – باحث ومفكر إسلامي القسم الأول- العلاقة بين العقيدة والحياة تطورت عبر التاريخ علاقة خاصة بين العقيدة والحياة في الوعي الاسلامي , جعلت...

علمانية الإسلام

بقلم: الشيخ رياض درار – باحث ومفكر إسلامي

القسم الأول- العلاقة بين العقيدة والحياة

تطورت عبر التاريخ علاقة خاصة بين العقيدة والحياة في الوعي الاسلامي , جعلت من الدين إطارا ً أوسع بكثير من الهداية , تحت اشراف الدولة رمزا ً للسياسة أيضاً . إن كلمة دين لا تعني مجرد سلطان الوحي وقدسبة الكلام الإلهي , ولكنها تعني وبقدر ما أصبح الدين مركز بلورة الاجتماع المدني كله في السياسة والاقتصاد والثقافة .. بناء ٍ واسعا أساسه النص القرآني الثابت , ولكنه يضم كل الاجتهاد الانساني والفكري والمادي , كالفقه والعلم والجهاد .. فالدين الجزء الأكبر منه بناء عقلي انساني .

( كل المنظومات الفقهية والعقائد والاجتهاد عمل عقلي على أرضية الوحي ) وبهذا المعنى أصبحنا نتحدث عن الاسلام باعتباره دينا ودنيا أي وحيا ً وعقلاً روحاً ومدنية , تربية وحضارة…..وهذا الشمول هو الذي أوحى لحسن البنا ومن قبله للمودوري برفع شعار ( الاسلام دين ودولة) فالإسلام يعني هنا – أي كدولة – الجماعة الاسلامية نفسها التي لا يمكن أن تمارس اسلامها إلا إذا حققت الدولة , أي صانت استقلالها .. ولكن هذا لا يعني أن الدولة الواجبة للجماعة الاسلامية هي دولة دينية.

أو بالأحرى لا يشتق من لزوم نصب السلطة .. أن تكون مبنية على الدين أو حتى واجبة دينيا …….إن الامر يتعلق بالشرعية السياسية .. وهي تتعلق بالاطار القانوني والخارجي الشكلي للسلطة لا بينية لسلطة نفسها .. والحقيقة الاوسع تأكيدا ً .. والتي جرى تحريفها في العصر الحديث إلى كلمة ( الاسلام دين ودولة ).. هي عبارة ( الاسلام دين ودنيا) فالعبارة الأولى ( الاسلام دين ودولة ) في ذهن المعاصرين جعلت الاسلام في نظر أتباعه يلحق كل ما في الدنيا من رغبات ومصالح أجتماعية وبشرية بالعبادة والايمان وبالتالي إلحاق مصالح الناس ومعاملاتهم في الدنيا برجل الدين .. وهذا ما حرص الاسلام على تجاهله وتجنبه .. عندما حدد العارفون به أفاقه عبر مقولة ( الاسلام دين ودنيا ) بمعنى استخدام العقل والعلم .. وممارسة السياسة والصناعة وكل الأعمال البشرية الطبيعية.

مما يعادل مفهوم الحضارة وما انتج ما يسمى في العالم ( الحضارة الاسلامية ) إن الالتفاف في كلمة الدولة – على كلمة الدنيا . .. هو عمل يلحق الواقع الاجتماعي ورغبات ومصالح البشرية , بأجزاء العبادة .. لترتبط نهائيا ً بأقوال الفقهاء الذين قوننوا الدين , ليصيروا بعد ذلك صورة عن رهبان المسيحية الأوائل , مصدر قيم حيث صاروا في أدهان الناس المتأخرين , عناصر شغب على الفهم الديني وفهم النص الديني .. فأدهان العامة والمتعصبين جعلت النص الفقهي البشري مقدسا ً قداسة النص الإلهي .. وذلك عين الانحراف , وتجميد النص .. دولنة الدين .. يعني السيطرة على حركة الناس لصالح الفئات الحاكمة أيا كانت … ولو تأملنا مليا في الموضوع لأدركنا أنه لا يمكن أن تكون هناك دولة دينية من دولة الاعتراف بمفهوم العصمة , أو المعرفة النابعة من الوحي .. وإلا فإن كل قرار هو قرار بشري , وبالتالي نابع من الاجتهاد العقلي حتى لو قام بها رجل دين هذا هو أصل الكلام الديني في الاسلام .

وهو الذي يفسر الجهود الاستثنائية الذي بذلها المسلمون عبر التاريخ للحفاظ على القرآن وحفظه من التبديل , فهو التجسيد الوحيد للوحي والمعرفة الإلهية , وما عداه كله .. فهو بشري ومدني .. لم ينظر الاسلام لفكرة رجل الدين .. ولكنه ربط علوم الدين بالعلم عامة ومن هنا جاء اسم العالم والعلامة .. وهو ليس بالضرورة المختص بالشؤون والعلوم الدينية .. والواقع.

ان انتفاء القدسية عن أي شيء ما عدا الله .. واعتبار كل سلطة غير سلطته بشرية .. أي مدنية وزمنية , ومنها سلطة رجل الدين بما هي سلطة علمية قائمة على الاجتهاد والتخمين والرأي , ومن ثم عدم الجزم والالزام فيها .. هو أصل اقرار حرية المسلمين .. ومسؤوليتهم الشخصية أمام غيرهم وأمام ربهم في فهم وتفسير وتأويل كتابه وأوامره . من هنا أخذ القرآن حالة استثنائية في الوعي الاسلامي باعتباره الأثر الوحيد لله .. وقدسيته في هذا العالم .. ومع ذلك حتى القرآن كأثر مقدس لم يطلق عليه في الاسلام ( الكتاب المقدس ) ونحن لا نصف أي شيء بالتقديس على الاطلاق .. إن صفة القرآن .. أنه عظيم .. كريم .. مجيد .. حق.. ذكر حكيم .. كتاب الله .. وقدسية القرآن تأتي من حيث أنه تجسيد لكلام الله.

إن مقولة الاسلام دين ودنيا .. تقابل المفهوم الحقيقي لمعنى العلمانية لا بالمعنى السائد والتقليدي والساذج .. فصل الدين عن الدولة .. وإنما بالمعنى الفلسفي .. من خلال مستوى التركيب النظري التي تسعى من خلاله إلى ادراك الواقع وتفسيره .. والكشف عن قوانين حركته .. ومن ثم اقتراح الحلول المناسبة للسيطرة عليه .. إنها العمل على تحقيق مصلحة جديدة بين الحياة الدنيا والآخرة بين العقل والوحي , بين الدولة والدين .. بحسب مفهوم علي بن ابي طالب في الحديث الشهير عنه : ” اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ً , واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ً ” وهذا المفهوم يعيد للإنسان ثقته بعقله , ويصالح بينه وبين الحقيقة الدنيوية , ويطلق قوى العلم والايمان , ويفتح أبوابا ً جديدة للمستقبل والحياة ويعمل على احياء الامم واحياء الدين.

فليس الدين تمسك شكلي ومظهري أو اقتداء بطقوس .. أو بحث عن تخريجات ومهارب ومسارب وفتاوى .. بل هو رحيل لتطبيق الشرع وتكاليفه ، وليس الدين مبالغة في اناشيد الحب الإلهي الواهي . سعياً وراء الصفح والغفران الشخصي , أو عن طريق الاعتراف عند كاهن…… الايمان والدين صدق في المشاعر والاعتقادات والمواقف في أمور الحياة وأمور الدين معا ً. والعلمنة بهذا المعنى تسعى لتقنية الشعور الديني , التي تفترضها حرية الضمير , ليعلن جزء من المجتمع موقفه الخاص بشكل مختلف عن رأي الأغلبية . حتى لو كان مناقضا ً لها . فليس ذلك خسارة حقيقة للدين .

فمن الأفضل للدين أن يخرج منه الكاذبون علانية , من أن يتحولوا إلى منافقين يتمسحون بالدين , ويظهرون الورع , ولا يردعهم رادع عن استخدام الدين لمصالحهم واستغلاله لغير أهدافه . إن تزايد الرياء والنفاق في الدين لا يسيء فقط للمؤمنين الحقيقيين ويدفع إلى إفساد ثقة الناس بالمؤمنين ورجال الدين , ولكنه يهدد أكثر الأخلاق الاجتماعية والضمير العام ذاتيهما .. إن الصراحة والمكاشفة الدينية التي يجرها موقف الصدق وحرية الضمير تعيد الدين إلى حقيقته وتبرز أهمية الايمان والتصديق في رسالته.

فالموقف العلماني يتيح إعادة بناء وتجديد الضمير الديني الذي لا يمكن أن يكون له قاعدة أخرى غير الصدق .. والقرآن الكريم يؤكد على هذه القاعدة من خلال خطابه للأعراب : (قالت الأعراب آمنا , قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم ) هذا الخطاب الذي يؤكد ضرورة الانتظار في التعبير عن القيم .. والدخول إلى مجتمع المؤمنين عندما يصبح الايمان منبعا ً للقيم , ولإحياء الوجدان المقتول . وعندما يصبح الدين قاعدة أساسية للأخلاق .. لا ينتظر دعما ً عبر قانون قهري تفرضه السلطة .. وعندها يتحول إلى مصدر قيم التضامن والألفة .. والمودة البشرية .. وهذا هو مجتمع المؤمنين .. الذي يرفع الشعار .. من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ” فالعلمانية لا تستهدف القضاء على الدين في حقيقتها , بل تستهدف إحياءه وتوسيع دائرة المتعاملين معه , والمستفيدين منه , والقارئين والفاهمين لحقيقته.

وهي بذات الوقت تعمل على إعادة الاعتبار للحياة الدنيا بما تحتاج إليه من عناصر التنظيم والانتظام داخل الدين أو خارجه , وهي المكانة التي أعطاها الاسلام للحياة الدنيا .. (( قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده , والطيبات من الرزق , قل هي للذين أمنوا في الحياة الدنيا خالصة ً.. وكذلك تفصل الآيات لقوم يعلمون)) كما أنها تعمل على تمجيد المواهب المبدعة , والحث على المغامرة والنظر في كل شيء ..(( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ َ الخلق َ)) وهي تعمل على مراعاة حاجات الجسد والروح دون تمييز.. ))إن لربك عليك حقا ً , وإن لنفسك عليك حقا ً , ولأهلك عليك حقا ً , فأعط كل ذي حق حقه)) كما أنها تدعم مكانة العقل باعتباره المقابل للوحي.. الداعم له .. والمكمل وليس النقيض . وإن شئت فقل حاء القرآن هاد ٍ للعقل وإن شئت فقل إن القرآن امتدح العقلاء حين ذم عديمي التفكير وشبههم بالانعام فقال : “إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ” وبهذا لم تبرز العقلانية ولا العلمانية ولا الانسانية في الاسلام كمذهب خاصة وقائمة بذاتها , لأنها كانت مندمجة في المنظومة ذاتها وهذا هو أصل العبارة الشهيرة والتاريخية التي يرددها المسلمون (الاسلام دين ودنيا) والتي يؤكدها قوله تعالى : (ولا تنسى نصيبك من الدنيا)…. وبهذا يبرز الاسلام كسلطة ودولة ومجتمع .. وسياسة وكسب. واختراع وعمل. وزواج ومتعة وذوق وجمال , وحس عميق بالحياة والتجربة والواقع.. دون تنازل عن المبادئ الكبرى الملهمة .. ” وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة , ولا تنسى نصيبك من الدنيا , وأحسن كما أحسن الله إليك , ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ” هذه الآية يشرحها القول الدارج والمثل العربي العميق : “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ً , واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ً ” أي لا تكف عن البناء وبذل الجهد والتمتع بالدنيا اعتقادا ً أن الساعة آتية غدا ً .. وإن كان ذلك ( فلو كان بيدك فسيل وقامت القيامة فازرعه) ولا تتوقف عن البناء حتى لا يؤدي ذلك لفناء العالم وانعدامه .

وهذا هو معنى العمران أي بناء واعمار الأرض بكل ما يرتبط فيها من مسرات وآلام , ومعرفة ضرورية للقوانين والقواعد والسبل وبذل الجهد (من الجهاد) والتضحية فيها .. “واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ً ” أي اسلك السلوك الملائم على الأرض حسب قواعد الحق والقانون والأخلاق .. ولا تعتقد أن كل ما يخطر بالذهن يمكن تحقيقه دون اعتبار أو مراعاة الآخرين .. فلست وحدك .. وأمامك مسؤولية في الآخرة وعليك رقابة وحساب .

وهكذا من الممكن دفع الانسان إلى بذل الجهد والبناء .. وفي الوقت نفسه ضمان أن يتم هذا البناء حسب قواعد العدل وأن يقود إلى ترسيخ مشاعر الأخوة والتضامن البشري .. وعدم ضياعه . فالنفس الدنيوية عامل مهم , وهو وراء اطلاق روح المبادرة الحضارية في المجتمعات .. وجزاؤه وراثة الأرض .. إذا تم في سياق شروط التقدم الحضاري , وكفالة الجهد البشري .. وعدم ضياعه . فوراثة الأرض هي جزاء الجهد المادي كما أن جزاء الجهد الروحي والتعبدي كسب الآخرة .. كما كتب رينا في كتب السماء : ” أن الأرض يرثها عبادي َ الصالحون .”
القسم الثاني
معنى العلمانية . والاشكالية المرافقة لها
يستدعي الحديث عن العلمانية وفهم مضمونها ومقاصدها وغاياتها ومستقبل العمل بها التمييز مسبقا بين مستويين
المستوى الأول : مستوى الواقع الذي تسعى العلمانية أو يفترض أن تسعى لمواجهته .
المستوى الثاني : مستوى التركيب النظري لهذا الواقع الموضوعي أي ادراكه وتفسيره والكشف عن قوانين حركته واقتراح الحلول المناسبة للسيطرة عليه .

فكل نظرية اجتماعية هي مزيج من تحليل الواقع كظاهرة خارجية مستقلة عن الوعي ومن الوعي بضرورة تحويل هذا الواقع في الاتجاه الملائم للقيم الاجتماعية السائدة . فهي تتضمن بالضرورة جانباً معرفيا ً قابلا للنقاش العقلي ….كما تتضمن جانبا قيما يشكل جزءاً من العقيدة التي تغذيها الآمال والآلام والمخاوف والتطلعات والمشاعر المختلفة في كل عصر ومجتمع .. والخلط المتزايد اليوم في موضوع العلمانية بين ما تمثله من نظرية لفهم الواقع وبين الواقع الاجتماعي والسياسي المتحول نفسه , هو السبب الذي يدفع البعض ( الذي لا يقبل بالأطروحات الفلسفية لهذه النظرية ومسبقاتها ) إلى رفض شرعية المشاكل الواقعية التي تطرحها .

كما يدفع البعض الآخر الذي يأخذ بهذه النظرية إلى تشويه صورة الواقع العملي الذي يريد أن يطبقها عليه .. إن منظومة القيم التي تتحكم برؤيتنا للواقع كثيرا ً ما تمنعنا من رؤية حقيقة ما يجري فيه وتجعل من الصعب التفاهم حول طبيعة التحولات التي نشاهدها معا ً .. العلمانية لم تشذ عن هذه القاعدة .. ( ففي الظاهرة الدينية – السياسية الملحوظة هذه الايام يختلف الناس بالنظر إليها بحسب رؤى الذين يحتكمون إليها:
– البعض يرى الدين في نهوض مستمر .. يسعى لاستعادة نفوذه في الواقع الاجتماعي
– البعض الآخر يرى أن القيم الدينية قد فقدت قدرتها في توجيه السلوك البشري , والسيطرة عليه .
– البعض يرى العودة إلى قيم الدين تعبيرا ً عن تهافت قيم العلمانية واندحارها
– والبعض الآخر يرى أن ذلك ردة ظلامية تهدف إلى القضاء على الحرية العقلية والسياسية.

وهكذا حكم الأسبقيات في كل عصر .. وعلى أية نظرية .. مع أن صحة النظرية قد لا يثبت وجود واقعة تاريخية .. وبالمقابل إذا أخطأت نظرية في تفسير واقع ما .. فلا يعني ذلك إلغاء الواقعة التاريخية إذا ً فأول شروط النظر العلمي هو الاعتراف باستقلال الواقع وتميزه عن العقل ،ذلك أن مفهوم الواقع من أكثر المفاهيم صعوبة وقدرة على التملص من الوعي والهرب أمام الإدراك ،لأنه يمثل التحول الدائم والمتناقض والمشعث الذي لايمكن الإمساك به ،وتنظيمه إلا بفرض وعي خارجي عليه.

من هنا يبدأ الحديث عن إشكالية العلمانية ،،فهي نظرية ، والنظريات ليست عقائد مقدسة ،إنما هي أدوات اجرائية لفك تعقيدات الواقع ، والأداة تفقد قيمتها إذا ضعف مردودها أو حلّت محلها أداة أخرى أقدر على القيام بوظيفتها دون أن يعني ذلك إدانتها ، لأنها تصبح ممقوتة ، أو ملغاة منهجياً بسب ولادة ما هو أصلح منها .

فالعلمانية كنظرية بدأت من مصطلح بسيط : علماني يساوي دهري ،دنيوي وزماني ،بمقابل مفهوم راهب أي رجل دين ولاهوت ،وهي مقابلة مثلما نقول مدني مقابل عسكري ، ولايعني هذا إخراج العسكري من وظيفته ،فهو يعرف أسرارها ،ويملك شرعية التعامل معها ، ولكنه ” أي العسكري” عليه أن يترك وظيفته السياسية للمدنيين ! أو ينخرط في جو السياسة العام متخلياً عن وظيفته حتى لا يفرض جواً على جو ولا فضاء على فضاء .

وهذا التقابل في العصور الحديثة تمثّل بالدولة كممثل للوجه الزمني ،والكنيسة كممثل للوجه الروحي .
وقد قادت التطورات العنيفة لقيام فصل عنيف بين الدولة والدين خلال فترة محددة لكنها عادت بعد ذلك لعلاقة التفاهم بين ما هو زمني وما هو روحي.

في هذه الحالة تمثل الموقف الصحيح لمقولة (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) بمعنى المفهوم المتجدد لتطوير العلاقة بين ما هو زمني وما هو روحي باستمرار ، بغاية عدم سيطرة أحدهما على الآخر ،وليس بغاية الفصل بينهما ، وهذه الحالة المثالية وهي حالة عرفها الإسلام الأول ممارسة ،وهي من صلب موضوعه فلسفةً ،أي التحرر السياسي عمّا هو ديني ،والقصد منه تحرر الدولة لا الأفراد ،لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يتحرر الأفراد من الدين ،حتى الملحد فإن دينه الإلحاد ، وهو دين اختاره المرء بحريته وعلى مسؤوليته ، لذلك فإن الدين حق خاص تحميه عدالة الدولة .

أما التحرر السياسي فهو حق يتعلق بالإنسان الواقعي الفرد المواطن في دولة ، دون أن يقضي ذلك على التدين الفعلي للإنسان أو التقليل من شأن الدين.

والتحرر السياسي يتطلب استقلالا ً عن السلطة الدينية . بمعنى ترك الحياة للدين وترك السياسة للدنيا . أي استقلال السلطة الزمنية عن السلطة الدينية . وهذا نوع من الفصل بين السلطات تحقيقا للتوجه الديمقراطي القائم على أساس العقلانية .
وهنا تبرز العلمانية كروح للمجتمع المدني وكما يقول أركون ” إن العلمانية هي موقف للروح إزاء قضايا الوجود , قضايا العمل والمعرفة قبل كونها نظاما سياسيا اجتماعيا يقوم على فصل السياسة عن الدولة “.

هنا يبرز دور الاسلام في موقفه من العالم ومن الآخر وفي عقلانيته السياسية فهو يمثل هذا التوجه في مصدره ونصه الأول . وإن انحرف به التطبيق فيما بعد نحو استبداد الدولة الدينية ، نحو الحكم المطلق باسم الدين ، (ظاهرة الخوارج نموذجا ً).

إن العودة إلى الأصول والمصادر الاولى تجعلنا نستبعد قيام دولة اسلامية بالمفهوم الديني , وإذا صح التعبير يمكننا قبول التوجه العلماني في الفصل بين السلطات مع الاحتكام للأخلاق التي يوجهها الدين من غير أن يكون الحكم دينيا , إنما هو حكم يدير العلاقات في المجتمع وفق المنظور العلماني الذي رأيناه في الصحيفة \ الدستور المدني العظيم \ وعلى قاعدة لا إكراه في الدين.. من غير أن ننسى أن النص الأول يوجهنا إلى مسألة التفريق بين ما هو ديني وما هو سياسي على قاعدة ما لله لله وما لقيصر لقيصر.

وفي الحديث النبوي توجيه إلى هذا الموقف حيث يقول: ( إنكم سترون أثرةً بعدي وأموراً تنكرونها , قالو فما تأمرنا يا رسول الله .قال : أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم ) حديث رواه ابن مسعود في البخاري ومسلم.

وكما نرى فرسول الله يقول : بعدي….. لأنه نبي معصوم قادر على دمج السلطتين السياسية والدينية بيده دون أن يزل أو يخطئ.. ولكن من يضمن للرجال بعده ألا يزلوا .. ( أقصد الحكام وولاة الأمر).

لذلك أرسى الرسول(ص) مفهوم الفصل بين السلطتين احتياطاً حتى لا يختلط ما لقيصر بما هو لله .. وما لله بما هو لقيصر . وحتى لا يتحول الأمر إلى استبداد وباسم الدين كما حصل في دولة الملك العضوض .

وفي تنبيه آخر لهذا الفصل روى ابو نعيم في دلائل النبوة عن رسول الله (ص) قال: ” ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار , ألا إن كتاب الله والسلطان سيختلفان فلا تفارقوا الكتاب”.

القسم الثالث

الخطاب السياسي المعاصر بين الواقع والبحث عن واقع آخر
الخطاب السياسي المعاصر مارس السياسة لا كخطاب يواجه الواقع السياسي القائم ـ على حد تعبير الجابري ـ بل كخطاب يبحث عن واقع آخر، فهو يقف على الواقع ـ رغم أنه يدعي تحليل الواقع ـ ويجيب على الأسئلة المعاصرة من ماضي الاسلام المجيد أو من الحاضر الأوربي المتمدن ، وهذان القطبان جذبا المفكر المعاصر بوجهيه السلفي والليبرالي ، وكأنما يمارس هذا الخطاب السياسة في موضوعات غير سياسية ، بمعنى لا علاقة لها بعلاقة السلطة بالمواطن ،والمواطن بالسلطة ، أي مشكلة الدولة والمجتمع والعلاقة بينهما.

الخطاب السياسي المعاصر هو خطاب غير مباشر، غير صريح ، مرة يلجأ للماضي ، وأخرى يلجأ للرمز على طريقة كليلة ودمنة يتكلم على لسان الحيوانات ، أو من خلال الحكم والأمثال ، دون أن يتناول قضايا مباشرة وهذا حال السلفي .. وأخرى يلجأ إلى التعميم ، ويبتعد عن مجابهة الواقع بشل مباشر ويضرب أمثلته من مجتمع غيره ، بدءاً بالطهطاوي الذي وصف لنا مجتمع التمدن الفرنسي , ونهاية بكل وجوه الماركسية التي شرعنت للاشتراكية بوجوهها السوفيتية والصينية , المثالية والعلمية , أو هي شرعنت لمجتمعاتها من خلال الليبرالية الغربية , وهذا هو حال الليبرالي , القومي والمادي العلمي …الخ

في موضوع العَلمانية وعلاقتها بالإسلام نحتاج لحديث موضوعي بعيد عن الانفعالات , ثم هو حديث مباشر لا يلجأ للتعميمات ولا للرمز ذلك أننا لا نحاول هنا أن نتحدث عن علاقة بين موضوعين متشابهين أو مختلفين , إنما حديثنا يحاول أن يوضح أن العلمانية صيغة متضمَّنة في الإسلام , بمعنى أنها لا تختلف عنه وكل خلاف معه غير مبرر ومصطنع .

وحتى لا يعتبر أحد قولي هذا بدعا ً من الأقوال ، أرجو أن تذكروا فترة تحدث فيها المتحدثون عن ثورية الاسلام في عهود سيادة الثورات والتغيرات الجذرية ومفاهيمها , كونها لفظة مستوردة وقد فَعَل ذلك القوميون والاسلاميون معا ً.. فلعماد الدين خليل كتاب باسم “الانقلاب الإسلامي” ولنديم البيطار كتاب “الايديولوجيا الانقلابية “.

وفي عهد سؤدد الحركات الاشتراكية تحدث المتحدثون عن اشتراكية الاسلام ،وكم رددت أم كلثوم من شعر أحمد شوقي :(الاشتراكيون أنت إمامهم) .. حتى قال عبدالناصر :”كانوا يصفقون لأم كلثوم وهي تردد الاشتراكيون أنت إمامهم ولما طبقنا الاشتراكية حاربونا ” وللدكتور مصطفى السباعي كتاب ” اشتراكية الاسلام ” من أجود الكتب التي أنصفت الاشتراكية والاسلام معاً ….
وعن الديمقراطية كتب كثيرون باسم الاسلام ، منهم عباس محمود العقاد كتب “الديمقراطية في الاسلام ” ودكتور عثمان خليل كتب “الديمقراطية الاسلامية ” ود.عبد الحميد الانصاري كتب (الشورى وأثرها في الديمقراطية ) …

وكذلك أحاديث العمل وقيمته الانسانية في عهود نهضة الطبقات العمالية ، وسيادة البروليتاريا ومفاهيمها … ومن ثم أحاديث وكتب عن الاقتصاد الخاص والخصخصة في ظلّ الاسلام وذلك في المجتمعات التي سادتها أنظمة حكم تتمثل الأنظمة الرأسمالية .
ولم تتوقف أحاديث العلم وقيمته في الاسلام إثر موجة العلم العاتية التي طفح بها العالم .. وصارت مجالا للتباهي والتعالي لدى الغرب على العالم الاسلامي ،حتى قام من فسر القرآن تفسيراً علمياً (جوهري طنطاوي) .

وها نحن اليوم في عهد تعالي الحديث عن المجتمع المدني الحديث والمناداة بالقيم الحضارية المعاصرة المتمثلة بالعقلانية والديمقراطية ،ندلي برأيٍ عن مفهوم العلمانية في الاسلام ،ولا نعتقد أننا بذلك نخالف واقعاً أو نتجاوز حقائقاً .

فالإسلام ، وبكل الاحتمالات التي توضع في طريقه ، يبقى العباءة التي تغطي كافة القيم المحتملة ، ويبقى الاسلام هو الاسلام مادة حضارية متجددة ، لا تتوقف على جيل من الأجيال ولا على رؤية من الرؤى … فهو الشامل وهي الخاصة ، وهو الكلّي وهي الأجزاء ، وهو لكل زمان وهي نتاج فترة من الزمان ، وهو لكل مكان وهي حاجة مكان من الأمكنة ، فيبقى الاسلام وتذوب كل الظواهر الأخرى وتندرج الشعارات تحت ظلّه ،وتصبح اسلامية المضمون مادامت تعمل على خدمة الإنسان ، لأن الإنسانية شعار المسلم …وكل حركة لا تخدم الإنسان تناهض الاسلام وتحاربه وإن ادّعت الانتماء إليه.

خاص_ مكتب الدراسات والبحوث في تيار الغد السوري

أقسام
الأخبار المميزةمكتب الدراسات والبحوث

أخبار متعلقة