ترى القوانين الدولية، الاتفاقيات والاعلانات المقررة في الأمم المتحدة في الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية، وتستوجب –وفقاً للشرعة الدولية– سوق مرتكبيها إلى العدالة ومعاقبتهم، نظير تلك الجرائم التي لا تزال تصنف مع أكبر جرائم العصر، وأشدها إيلاماً وغموضاً وانتشاراً، مع إفلات المجرمين من العقاب، على الرغم من معرفتهم في الغالب، من قبل المجتمع الدولي، ومؤسساته المعنية بذلك، حيث ان معظم جرائم الاختفاء القسري والمتمثلة في “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف، أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية” ترتكبها حكومات أو منظمات سياسية شبه عسكرية.
وقد نصت المادتين الأولى والثانية من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، على أنه “لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري، ولا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري”. وقد أشارت الاتفاقيات، واتفاقيات ونظم المحاكم الجنائية الخاصة، ونظام محكمة الجنايات الدولية، إلى أن الاختفاء القسري والسجن، هي جرائم ضد الإنسانية ينبغى منع حدوثها وتجريم مرتكبيها، وطالبت الاتفاقيات الدولية الحكومات الالتزام بذلك.
في الحالة السورية الراهنة، هناك انتهاك واسع لحقوق الأفراد والمجموعات البشرية، على اختلاف انتماءاتها ومكوناتها، من حيث التعرض للاختفاء القسري، بصورة تشكل تهديداً للمجتمع بأكمله، تحت ذريعة العمل – الرأي السياسي. يجري في سوريا: الاعتقال التعسفي، السجن، الاختطاف وتقييد حرية الحركة بدون أي ضوابط معلنة للجمهور وفقاً للدستور أو القوانين النافذة، الإجراءات الأمنية هي التي تسوس المجتمع وتحكمه بممارسة الإرهاب، والتغييب. النظام الأسدي ومؤسساته المنية هي التي ترتكب جرائم الاختفاء القسرين وهي مسؤولة عنه، قانونياً وإدارياً، وهي من يتحمل تبعاته.
الطغمة الحاكمة في دمشق لم تتوقف عن الملاحقات الأمنية والاعتقال والإختطاف والتغييب والقتل في المعتقلات والسجون، طوال سنوات سيطرتها الدامية، ولم تخفف في أي وقت أو مرحلة من ضغوطاتها بحق الجماعات والمجموعات والأفراد، الذين يصح إطلاقنا عليهم، قوى المجتمع المدني الحيّة في سوريا، منذ نصف قرن، تجلى فيها القمع والاستبداد بأبشع صوره، وأشدها إجراماً وهولاً، يتأكد لنا اليوم أن ممارسات القمع والقتل والتغييب القسري يتفوق فيها نظام الأسدية على من عرفتهم البشرية من طغاة ومستبدين.
يجري ذلك في سوريا، تحت سمع وبصر المجتمع الدولي، ومؤسساته المعنية بمكافحة الجرائم ضد الإنسانية، دون أن تتمكن من إدانته وإيقافه عن ارتكاب مزيد من الجرائم بحق المدنيين، خاصة منذ اندلاع انتفاضة الحرية والكرامة في آذار 2011. حتى أضحى المجتمع الدولي شريكا مباشرا في ارتكاب تلك الجرائم بسبب غض الطرف عنها والسكوت حيالها، وعدم الإيفاء بالتزامات الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لجهة تطبيق بنود الاتفاقيات الدولية، بفرض التزام النظام الأسدي بها، وخاصة “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري”، على الرغم من تدخل الأمم المتحدة في المسألة السورية بشكل مباشر، وفقاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
اليوم هناك مايزيد على 300 ألف مواطن سوري، تنطبق عليهم توصيفات الاختفاء القسري، بسبب من سياسات النظام وممارساته الإجرامية، في الاعتقال الممنهج والعشوائي المستمر وفي السجن وفي تصفية آخرين. والواقع أن المئات من المقار الأمنية في معظمها سري، غير معروف، لا تخضع لأية قوانين معروفة، تضم هذا العدد المهول من المغيبين قسراً، دون أن تتوفر عنهم أي معلومات لذويهم، عن أماكن احتجازهم، أو حالتهم الصحية، أو أسباب تغييبهم، وحالات ذلك: “الاعتقال – السجن – التصفية..” ومنع زيارتهم، أو محاكمتهم بصورة علنية قانونية وعادلة.
يُفرض على المختفين قسرياً تعتيم وتكتم كامل من قبل السلطات الأمنية المتورطة بجرائم ضد الإنسانية، ومن يتمكن من النجاة يروي عن ممارسات مهولة في التعذيب، وفي أساليب الاختطاف والاعتقال والتصفية. النظام اليوم يمثل مدرسة عريقة في الإجرام وممارسات الاختفاء القسري التي أدت إلى تغييب عشرات الآلاف من السوريين خلال نصف قرن.
وقد انتهج نظام الأسدية، استهدافاً منظماً لقوى المجتمع الحيّة، النشطاء السلميين، بسبب الرأي والموقف من النظام، ومواجهة استبداده بالعمل السياسي المدني، وقد تصاعدت وتيرة الاختفاء بصورة كبيرة دون إخفاء لها في وضح النهار منذ آذار/مارس 2011 وحتى اليوم. هناك من بين المغيبين من لا صوت لهم اليوم، المعتقلين والمغيبين المجهولين، وهم أغلبية كبيرة، إلى جانب شخصيات سياسية وثقافية وإعلامية، استشعر النظام قوة تأثيرها السلمي، فبادر إلى تغييبها، في سياق أخذه بالحل الأمني إلى أقصى درجاته التي نتلمسها اليوم في ارتكاب مجازر وحشية، تستخدم كل صنوف أسلحة الموت والتدمير من أجل إحراق سوريا أو القبول باستمرار طاغية دمشق.
لم يتوقف ارتكاب جريمة الاختفاء القسري، على النظام الأسدي وحده، بل إن تنظيمات سياسية عسكرية وإرهابية مارست الفعل ذاته، وببشاعة لا تقل إجراماً عما يقوم به النظام الأسدي، فتم استهداف العمل المدني في الثورة السورية، ومورست بحق نشطائه من إعلاميين وكتاب ومحامين وقادة المجالس المحلية وغيرهم، عمليات الإبعاد والاختطاف والقتل.
داعش تتصدر القائمة، ولكن هناك من سبقها إلى ذلك منذ منتصف عام 2012، حينما بدأت عمليات “التشويل” بحق أبناء الثورة المعترضين على الممارسات الخاطئة في الثورة السورية، ثم تولت كل من أحرار الشام وجبهة النصرة (آنذاك) القيام بعمليات اختطاف وتصفيات واسعة للنشطاء المدنيين وتغييب الكثيرين قسراً، دون أن تتوفر حتى الآن أي معلومات حول مصائرهم.
غيبت تلك التنظيمات -ونظام الأسد من ضمنها، بوصفه منظومة إرهاب أيضا- وجوهاً سياسية وثقافية وإعلامية بارزة في المجتمعات المحلية وفي الحياة السورية، فقد اغتيل عدنان وهبة، وقتل عمر عزيز تحت التعذيب، ومثلهما المئات من الشباب الذي قضوا تحت التعذيب، فيما يتواصل تغييب عبدالعزيز الخيّر ورفاقه، واعتقال المحامي خليل معتوق وفائق المير وعشرات الآلاف الآخرين.
أما جبهة النصرة وأحرار الشام وداعش فهي مسؤولة عن تغييب مئات الناشطين، منهم المحامي عبدالله الخليل، فراس الحاج صالح، الأب باولو داليليو، إبراهيم الغازي، د.إسماعيل الحامض، وعدد من الإعلاميين السوريين، عبيدة بطل ورفاقه وعبود الحداد. وتصفية البعض الآخر مثال خالد العيسى قبل أشهر فقط.
جيش الإسلام أيضاً مدان بالتستر أو باختطاف نشطاء في الثورة السورية هم المحامية رزان زيتونة، رئيسة مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، ورفاقها سميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة منذ قرابة ثلاث سنوات، في يوم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ما يعني توجيه رسالة واضحة باستهداف قيم الحرية والعمل المدني.
كما مارست تشكيلات الاتحاد الديمقراطي انتهاكات واسعة بحق النشطاء المدنيين من اعتقال وإبعاد وتهجير، وهي مدانة بحكم القوانين الدولية.
وحتى اليوم، لا يزال هؤلاء النشطاء مغيبون في ظل مايشبه إطباق الصمت وإسدال الستارة السوداء وحجب قضيتهم عن التداول العام.
مايحدث هو أن مجتمع الثورة السورية يبدو وكأنه تخلى عن هؤلاء، سوى نداءات مليئة بالأمل والأسى من ذويهم وأصدقائهم، ومواصلة البحث عنهم وانتظارهم والتذكير بهم من حين لآخر.
ولم يحدث أن تطور الوعي الجمعي السوري ليجعل من قضية المعتقلين خلف القضبان أو في سجون الظلامية قضية وطنية بامتياز. بالمقابل، عجزت مؤسسات المعارضة السورية عن القيام بأي شى حيال قضية الاختفاء القسري وتنامي أعداد المعتقلين والمختطفين دون بارقةٍ من أمل.
الأمنيات لا تقدم شيئاً لأولئك الذين ينتظرون منا فعلاً مؤسسياً وقانونياً لدعم قضية حريتهم، بتحسيس السوريين أولاً بفداحتها، وأهمية أن يكون الإفراج عنهم في مقدمة أي تفاوض مع النظام، ويجب أن تُجبر المنظمات المنخرطة في الثورة السورية مثل جبهة فتح الشام وغيرها على الكشف عن حالات الاختفاء القسري ومصائر المغيبين، وأن يتم العمل بالكيفية الملائمة لإطلاق سراح جميع المعتقلين والمختطفين أينما كانوا.
أن يرفعوا صوتهم الغائب في المحافل الدولية علّها تفعل شيئاً من أجل وقف تعذيبهم وقتلهم الذي يحدث يومياً..بصمت!.
__________________
عبدالرحمن مطر
كاتب سوري
مدير مركز الدراسات المتوسطية