لم يسجل تاريخ سوريا الحديث أي مؤشر لإمكان تورط البلاد في متاهات حرب عبثية بنتائجها الكارثية التي تفوق قدرتنا على الوصف، فالآلام الكبيرة تُعاش ومن الصعب أن توصف، لكن مقدمات الحرب بدأت مع انقلاب حافظ الأسد في العام 1970 ثم تدرجت لتدون بوضوح مريب أثناء الصراع على السلطة مع جماعة الإخوان المسلمين والذي وصل إلى ذروته مع إعلان الجماعة، العصيان المسلح في العام 1982 وكانت نتيجة هذا الصراع إلى جانب أكثر من 30 ألف ضحية، طغيان الأسد وتغوّل الأجهزة الأمنية التابعة له وتحويل البلاد إلى مزرعة، وتجاوزات أخرى دمرت المواطنة، ليختصر المواطن إلى رقم إما تابع للأجهزة الأمنية السرطانية أو عدو محتمل من حق الأجهزة الانقضاض عليه ونهشه.
بعد وفاته في 10 حزيران 2000 تم توريث البلاد بأزماتها لابنه بشار، وكأنها أملاك شخصية، دون أن يملك الابن الوريث أية كفاءات تؤهله لقيادة منصب ضئيل في دولة بحجم سوريا ومكانتها المفترضة، لكن تقاطع المصالح الدولية مع مصالح الدول الإقليمية وتغييب الشعب السوري ونخبه تحت وطأة أجهزة القمع الأمنية وسجونها الممتدة على طول البلاد وعرضها، جعل من مسرحية التوريث وتعديل الدستور ليناسب سن الوريث واقعاً في سوريا وأمام أنظار العالم أجمعين.
واصل بشارالأسد نهج والده في تغييب الشعب ومنعه من المشاركة في الحكم بكافة أشكال التسلط، ليصل الضغط مع موجة الانتفاضات التي شملت العالم العربي إلى أوجها وليجد الشعب السوري المنتفض الأعزال والمطالب بالعدالة والكرامة نفسه في مواجهة مباشرة مع نيران الأجهزة الأمنية وميليشيات طائفية تم استيرادها من خارج الحدود، وتتحول الانتفاضة بعد أكثر من تسعة أشهر لحرب ضروس بين أبناء البلد الواحد، وتفتح الحدود على مصراعيها لكل قتلة الأرض للمشاركة في حرب لا يمكن وصفها إلا وكالة عن مصالح الآخرين واستراتيجياتهم حالها كحال الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990) والحرب الأهلية الجزائرية (1991 ـ 2002)، حرب أهلية تتداخل فيها إضافة إلى العصبيات المتعددة والمتدرجة، مصالح اقليمية ودولية تتصارع من خلال أطراف الحرب عبر مدها بالسلاح والمعونات والدفاع عنها سياسياً وإعلامياً، فالحرب اللبنانية كانت امتدادا للصراع العربي الاسرائيلي، الذي كان قد تحول منذ زمن الرئيس جمال عبدالناصر إلى لعبة عض أصابع بين المعسكرين الشيوعي والغربي. والحرب الأهلية الجزائرية، لم تكن سوى صراعا بين فرنسا وامريكا على منطقة نفوذ غنية بالنفط والغاز لكنها لبست لبوس الصراع بين إسلاميين خدموا كعادتهم مشاريع أكبر من طاقتهم وطاقات البلاد التي يحلمون بإدارتها، واتكئوا على حرمان من نجاحهم في انتخابات طعنوا بمنطقها قبل أن تحملهم إلى سدة الحكم، وبين جيش وطني ودولة ” أيا كان رأينا بشكل نظام الدولة وعلاقته بالجيش” لم تقبلا بتسليم البلاد لمغامرات المتأسلمين بأي ثمن ولتذهب نتائج الصناديق إلى الجحيم، حفاظا على عدم انهيار البلاد وذهابها إلى الاندثار، كما في تجارب سابقة، أفغانستان وإيران ودول أخرى، ويمكن تعميم الحالة إلى حد كبير على حروب إفريقيا عامة، فأمريكا أرادت التمدد في مناطق نفوذ فرنسية تقليدية مما أجج صراعات محلية دينية وقبلية وإثنية كواجهة لصراع أساطين رأس المال العالمي.
إن أي حديث عن أفق لأنهاء هذه الحرب وبدء مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، يبقى حديثا رغبويا أكثر مما هو واقعي، لأسباب كثيرة وفي مقدمتها، أن ممولي الحرب ومؤججيها الدوليين والإقليميين لديهم عشرات مناطق الصراع والاختلاف التي تعتبر الساحة السورية مكاناً مناسباً لتصفية حسابات.
تنتمي الحرب السورية الآن إلى هذه الحروب، من جهة أن طرفاها سوريان (لا يتعارض قولنا، وجود ميليشيات “شيعية” في صفوف قوات النظام أو معها، ووجود شيشان وأوزبك وتركمانستانيين وأيغور صينيين وأفغان وأفراد من مختلف أمم الأرض في صفوف الفصائل الجهادية، كجبهة النصرة التي حولت اسمها وحافظت على مضمونها وتوأمها، داعش، التي تكثر التكهنات حول اصطفافها المفترض هل هي في صف النظام أم في صف المعارضة؟ أم أنهم خوارج؟ كما تسميهم الفصائل الجهادية، وهذا حديث شائك وطويل وحافل بالأسئلة)، وأن مسرحها الارض السورية، وأنها إضافة إلى كونها في إحدى جوانبها صراعاً داخلياً على السلطة أو على تقاسمها في أقل الاحتمالات، استثمرت حالة انتفاضة شعبية بمطالب محقة وتم مواجهتها بالقتل والتعذيب ” يقدر عدد المعتقلين الذين قضوا نحبهم تحت التعذيب بعشرات الآلاف” وكافة الوسائل التي تدفعها للتسلح، بدأت ثورةً وتم جرّها من طرف النظام لتكون حربا ، فهي حرب اقليمية عالمية تخوضها بالوكالة أطرافا محلية مجازاً أو ادّعاءً، أو محلية بحكم الولادة وليس الانتماء، أما المصالح الدولية والإقليمية فهي الخلفية التي تؤجج هذه الحرب وبل كانت الفتيل التي ساهمت إلى جانب النظام بتأجيجها وإضرام نيرانها ولعلنا نتذكر التصريحات الإيرانية المشجعة للنظام للذهاب إلى الأقصى في ارتكاب المجازر والخطوط الحمر التي سماها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تباعاً خلال الأزمة كأمثلة على الدور الإقليمي في تحويل الثورة السورية إلى حرب أهلية لن يكون من منتصر فيها والخاسر الوحيد هو الشعب السوري وحاضره وآمال كثيرة كانت تعقد على مستقبله وخاصة آمال النمو الاقتصادي القريب التي تراجعت إلى أدنى الحدود.
مَعْبَر لنهاية الحرب
إن أي حديث عن أفق لأنهاء هذه الحرب وبدء مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، يبقى حديثاً رغبوياً أكثر مما هو واقعي، لأسباب كثيرة وفي مقدمتها، أن ممولي الحرب ومؤججيها الدوليين والإقليميين لديهم عشرات مناطق الصراع والاختلاف التي تعتبر الساحة السورية مكانا مناسبا لتصفية حسابات قديمة أو جديدة أو فواتير تحت الدفع لخلافات وصراعات مستقبلية، ولتسجيل نقاط فيها وانتزاع تنازلات من الخصم في بؤر أخرى، فروسيا الاتحادية ” كمثال ثانٍ” خسرت مناطق نفوذها التقليدية في العراق وليبيا واليمن ولم تبق لها سوى سوريا، وقد ذاقوا مرارة غدر الغرب وأمريكا بهم في ليبيا والعراق، فتحولت سوريا إلى “قلعتهم الأخيرة”، وهو ما يفسر ثباتهم على الدفاع المستميت والمكلف عن نظام يفتقد الشرعية برأي كثير من السوريين وقطاعات واسعة من الراي العام العالمي وعدد كبير من الدول الاقليمية والكبرى، وربما التفاتة بعض الدول الأوروبية صوب نظام ساهموا معه في تحويل الثورة السورية إلى حرب أهلية نحو شرعنة النظام واعتباره الجانب العقلاني من الصراع لالتفاتة تفسر جانب من تبدلات الصراع على وفي سوريا، لعل الرغبة الأوروبية في تحقيق اتفاق مصالحة مع روسيا الاتحادية يلعب دورا كبيرا في هذا الاتجاه.
الغرب الأوروبي له أجنداته الخاصة بشأن مستقبل سوريا وإمدادات النفط والغاز إلى القارة العجوز وتأتي أهمية سورية في هذا السياق كمنتج محتمل لكميات كبيرة لهما كما تقول التوقعات، ومعبر مناسب حالياً، وهي تريد نظاما بديلاً يراعي القواعد الديمقراطية في الحكم لكنه في الوقت نفسه يغلق المنافذ أمام القوى الإسلامية في الوصول إلى السلطة، لأنها تعلم من خلال تجاربها السابقة مع الإسلاميين في أكثر من مكان إن لعبة المصالح تنهار بانهيار البلاد وانهماكها بحروب بينية بين جماعات جهادية تدّعي تمثيلها للدين واحتكارها للتعاليم المقدسة وطريق الجنة، دونما إلتفاتة لحق الإنسان في الحياة، الحق الذي منحه الله تعالى لعباده أجمعين، ودون الالتفات إلى نقطة مركزية في حسابات الغرب، إن الحروب الطويلة وبؤر التوتر لا يسمح باستمرارها في الجغرافيات المجاورة لها ودائما هناك شيء اسمه “إسرائيل” التي تلجم المنطقة من الدخول إلى فوضى يصعب التحكم بها.
تبقى الولايات المتحدة التي تبدو “كاستراتيجيات” أكبر الرابحين من الأزمة السورية هي وشريكتها في “الإستراتيجيات” إسرائيل، ففي كل عرس لهما قرص، وسواء بقي النظام بصيغته الحالية او المعدلة فان الولايات المتحدة لن تكون بعيدة، وان جاءت اي معارضة الى السلطة أيضا ستكون هي الرابح الأكبر، من خلال حلفائها الإقليميين ووكلائها على الأرض، فهي التي تقود العالم بلا منازع، وكما قال الصحفي المصري الكبير، الراحل محمد حسنين هيكل:” ما زال أمام أمريكا أكثر من نصف قرن على الأقل من السيطرة في أسوأ الاحتمالات”، أمريكا التي تتكفل برجحان كفة أي صراع لصالح مشاريعها الاستراتيجية والآنية، أمريكا التي تخشى عودة أوروبا إلى مسرح الحياة كما يليق بتاريخها ومكانتها وقدراتها، ثمة حسابات أمريكية معقدة منها خشيتها من صعود أوروبا القوي والتقارب المحتمل بين غربه القوي اقتصاديا وشرقه الحالم بعودة إلى ماضي امبراطوري ليس ببعيد.
هذه المعطيات المربكة وأخرى مؤلمة وقاسية ومرعبةـ إن دخلنا في تفاصيل الارتباطات الإقليمية والدولية للفصائل المتحاربة وفي تفاصيل سير خطوط سفك الدماء والخراب، يجب أن تصبح دافعا للسوريين، بمن فيهم المحاربين في جميع الأطراف (السوريين منهم) ليبدؤوا خطوات عملية باتجاه البدء بعملية سياسية حقيقية، تبدأ بالاعتراف بالأطراف الأخرى ووجودها وحقها في التعبير عن نفسها عبر الوسائل السياسية والمؤسسات الديمقراطية التي ستولد بعد الاتفاق او التوافق، على شاكلة اتفاق الطائف 30 أيلول، سبتمبر 1989 والذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية بوساطة مشكورة من الشقيقة الكبرى، المملكة العربية السعودية، مع الانتباه الشديد للثغرات التي اعتورت صيغة الطائف والتي أدت إلى ارتباك أحوال الدولة اللبنانية فيما بعد، ومضي الميليشيات الطائفية كحزب الله إلى حيث لا طاقة لاتفاق الطائف ولا لنسخ معدلة عنه عن تحمل هكذا مصائب تعطل الدولة والمجتمع لصالح دولة الملالي في إيران.
من غير ان تولد مبادرة من أطراف الصراع نفسها، أطراف الصراع السورية أولا، ووساطات عربية غيورة على الدم السوري، أصر على أطراف عربية لأنها تكاد تكون الوحيدة صاحبة المصلحة لمنع تحول سوريا إلى بقعة مستديمة للإرهاب سواء بنسخه الداعشية أو القاعدية” جبهة النصرة” أو بنسخته الإيرانية المتنمذجة في حزب الله وميليشيات إيران الطائفية في العراق المجاور، لن تنجح أي خطة أو مؤتمر في إرساء أسس لحل وطني، بل ستكون هدنات مؤقتة، وإعادة توزيع للحصص، وفق موازين القوى المستجدة على حساب دماء السوريين وخراب بلدهم، وهو ما كان حال “الجنيفات” المتتالية، وهو ما سيكون حال القادمة، إن لم تكن قائمة على رغبة حقيقية ونية صادقة من أطراف الصراع المسلح من السوريين لوقف الحرب والبدء بحوار سياسي وطني شامل يؤسس لولادة الجمهورية السورية الثانية.
كل هذه التضحيات التي بذلها السوريون تستحق ان تتوج بسوريا جديدة بلا استبداد ولا طغيان ولا حكومة قروسطية متخلفة تجرّم المواطنين باسم الله وتحولهم إلى رهائن حرب في مواجهة العالم وفي مواجهة المحيط العربي.
لكن كيف يمكن أن نفسر الخطوات العملية إلى هذا الطريق؟
أحمد الجربا – رئيس تيار الغد السوري