لم تكن تلك الليلة كغيرها من ليالي ذاك الشتاء الآزف بالمغيب.. كانت النساء يخبزن على غير عادتهن، ليلاً ولساعاتٍ طويلة، والدخان يتصاعد حول البيوت كما لو أن البلدة الوادعة الرابضة على كتف سد عتيق أمست مدينة صناعية بين يوم وليلة.
أبقار البلدة سيقت إلى الساحة الرئيسة، حيث تقوم الصبايا بحلبها. وهناك من يجمع الخبز والخضراوات والمعلبات وحليب الأطفال من البيوت ويضعها في أكياس يسهل حملها.
على مداخل البلدة، تواجد بعض الشباب الذين كانوا يسألون كل قادم عن أخبار تلك المدينة التي اجتاحتها قطعان الجراد البشري والآلي، أما كبار السن فقد تجمعوا في “المضافات” يشاهدون محطات التلفزة “المعادية” لله والوطن والقائد لمعرفة ما يجري هناك.
سينطلقون في الغد، وسينضم لهم رجال ونساء وأطفال العديد من القرى التي سيمرون بها. لم ينم أحد تلك الليلة.
كان هذا أيضاً لسان حال ذلك الشاب صاحب الابتسامتة المحفورة على وجهه، التي لا تفارقه حتى حين يغضب، الشاب الوسيم، الأنيق،كيف لا وهو الحلاق الماهر الذي يفضله شباب البلدة على غيره للمستة الخاصة في اختيار قصة الشعر التي تناسب كل واحد منهم، لا يذكره أهل بلدته إلا بالخير، ولا يعرفون عنه إلا كرم أخلاقه وعظيم لطفه، أما لهفته الفطرية فكانت أكثر ما يميزه.
مع أول صباح، رمى بجسده الفتي في حضن أمه، تلمس خديها براحتي يديه كما كان يفعل وهو صغير، ألحت عليه أن يتناول الفطور الذي أعدته له: رغيف خبز “مقحمش” من صنع يديها، وصحن “لبنة مدحبرة” مع حبات الخيار التي قطفتها للتو من الحاكورة وكأساً كبيرة من الشاي. ومع أنه كان في عجلة من أمره، لم يكن ليرد طلب أمه، وبعد أن فرغ من طعامه، ودَّعها، ومضى.
التحق بالمحتشدين في الساحة الذين سرعان ما مشوا، ومشت الأرض من تحتهم.
كان لا يمل من طول الطريق ولا يكل من حمله الثقيل، يملأ قلوب الجميع فرحاً بحركاته وإيماءاته وخفة دمه وطلاوة روحه.
بعد طول مشقة، باتت المدينة على مرمى حجر، وبدأ الجميع يحث الخطى فما يحملونه من زاد ينتظره ساكنيها الذين كانوا في مسيس الحاجة إليه.
ورغم الانتشار الكثيف للقناصة في كل حدب وصوب، راح بعض الأطفال الذين هربوا من منع التجول يشوحون بأيديهم الصغيرة لهذا الزحف الناعم، بلهفة وحذر.
فجأة، وبدون سابق إنذار، هطلت عليهم نيران “الوطن”.
دب الهلع والذعر، وقبلهما الصدمة، من هذه الفعلة على يد من اعتقدوا أنهم أبناء ترابهم وجلدتهم. كانت الدماء تسيل في كل مكان.
ظل مصمماً على المضي في مهمته التي جاء من أجلها. بقيت عيناه معلقتان بتلك الأيادي الصغيرة الملوحة من بين جنبات بيوت المدينة التي هب لنجدتها. لم يَسقط كيسهُ عن ظهره، إلا بعد أن أردته عدة رصاصات صريعاً.
تناثر خبزه على الطريق مضرجاً بدمه، على مرأى من الأطفال الذين كانوا بانتظاره.
عادوا به جثة هامدة إلى أمه المكلومة وابتسامته لا تزال مرتسمة على وجهه، حبست دموعها، تفرست في محياه، تَذَكَّرت تلك اللحظة التي رأته فيها أول مرة بعد ولادته بقليل، إنها نفس الابتسامة.
جثت على قدميها وهمست في أذنه: “يُمّا، من يوم يومك، فعايلك هي لسانك! لا تزعل، يُمّأ، بيكفي إنك حاولت!”.
يومها، خمن البعض أنه لم يسمع أزيز الرصاص لأن الأبكم لا يستطيع تمييز الأصوات، وأنه ظل يتقدم غير منتنبه لما يجري من حوله.
ربما غاب عن بالهم أن الحُرَّ تكفيه الإشارة!.
أيمن الأسود – تيار الغد السوري