طرح السيد أحمد الجربا، الرئيس الأسبق لائتلاف قوى الثورة والمعارضة ورئيس تيار الغد السوري، ضمن سلسلة “ماذا يمكن للسوري أن يفعل الآن”، رؤية موسعة وشاملة حول الخروج من المأزق التراجيدي السوري تناول فيها قضايا تداول السلطة وإعادة تكوين الجيش الوطني ومآلات التدخل الأجنبي الذي أذكى الصراع وأطال أمد الحرب التي دفع السوريون ثمنها دماءا ودمارا.
وطالب الجربا، في المقال الذي نشرته صحيفة القدس العربي صباح اليوم السبت، بأن يتوقف السوريون عن تجاهل الآلام والإفراط في التطلب فيما حلب تتحول إلى مدينة أشباح، وأرياف دمشق يتم تفريغها من سكانها، ودير الزور لا أحد يريد سماع ما يجري فيها من استباحة، والرقة تحولت إلى مستنقعات عقاب داعشية، وإدلب سجينة شذاذ الآفاق من أصقاع الكون، وسط حصار النظام وتهيئة دمها لتوزيعه على العالم. مشيرا إلى أن المشهد يغطيه سواد ممتد من الجولان المستباح منذ أمد بعيد، وصولا إلى جرابلس التي تستحضر قول المتنبي: “وسوى الروم خلف ظهرك روم”.
ووصف رئيس تيار الغد السوري المشهد بأنه “مريع”، وأن النزيف المتواصل والخراب المستشري والسوريين بين قتيل ونازح.. يحتم التوقف عن الكراهية وما يؤجج العداوة، كما يحتم البحث عن وئام ومصالحة تنهي المأساة وتفتح نوافذ الأمل بأن ما فعله ويفعله الطغاة والحروب وممولوها والمستفيدون منها يمكن تجاوزه بالحكمة والعقل.
وأكد الجربا على أن ما يحصل الآن في سوريا هو نتاج أكثر من خمسة عقود من الغياب والتغييب والتهميش، وأن ما يقرب من ست سنوات على الانتفاضة الشعبية لم تتوفر لها حتى الآن الظروف الذاتية والخارجية لاستكمال المسيرة، والوقت ليس متأخرا لطرح السؤال “ماذا يمكن أن نفعل كسوريين معنيين بشأن الوطن ومستقبله وأجياله القادمة؟”، وأن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا، مستعرضا التجربة اليابانية بعد كارثة القنبلة الذرية، وكارثة ألمانيا بعد هزيمة جيشها وسقوط برلين وتقسيمها، مطالبا بتذكر هذه التجارب عساها تحمل للسوريين بعض الأمل.
وقال الجربا إن السوريين ليسوا جديرين بسوريتهم إن توقفوا عند تلال الدمار والأشلاء، معتبرا أن الإحباط شعور عدمي يؤدي إلى اليأس، والآن هو وقت بذل كل الجهود من أجل الخروج من المأزق التراجيدي الذي تعيشه البلاد والعباد عبر حل جماعي يضطلع به كل السوريين بمختلف فئاتهم وطوائفهم وأعراقهم لأنه لا توجد فئة واحدة متضررة من الكارثة وما يحصل في سوريا أكبر من زلزال وأقرب لمأساة، ولاخلاصل للسوريين إلا بإعادة بناء سوريا كما بناها أجدادهم على أسس الوطنية الجامعة والتعايش المشترك.
واعترف الجربا أن الخطأ الذي وقع فيه السياسيون وأصحاب الرأي والمتصدرون لمهام قيادة دفة المواجهة مع النظام الموغل في الدموية والإجرام، هو أنهم قسموا زاوية النظر إلى الوطن وأهله حسب رغبات فئوية ومصالح طائفية لا تمت لسوريا والسوريين بصلة، ما يحتم الوصول في النهاية إلى حرب أهلية تقضي على ما تبقى من آمال في التغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية اللتين كانتا ديدن الانتفاضة السورية، وتحول الحلم إلى كابوس قضّ مضاجع الملايين تحولوا إلى شهداء ومهجرين وضحايا مأساة يتفرج عليها العالم كأنها فيلم من نسج خيال المخرجين الكبار.
كما أشار الجربا إلى أن “البعض” مازال مصرا على رمي العصي في العجلة وتحميل الآخر “الغربي، الأمريكي والأوروبي” أسباب وتبعات المأساة السورية، فيما يذهب بعض آخر لتحميل الأشقاء العرب “خاصة دول الخليج العربي” وزر مصابهم الجلل، ويذهب آخرون صوب دول الإقليم “غير العربية”.. فيما ننظر “نحن” كفريق من السوريين للمسألة على إنها مسألة سورية بامتياز، بدأت على خلفية استئثار عائلة الأسد بالحكم في سوريا على طريقة عصابات المافيا وحين طالب السوريون بإخراج البلاد من هذه الحالة؛ شن النظام حربا على الشعب بمؤازرة من إيران وميليشياتها، ما فتح المجال لكل القوى والمصالح الدولية والإقليمية للالتقاء في سوريا وتصفية حساباتها وتصدير أزماتها إليها، وتم اختطاف الحراك السوري من قبل ميليشيات شيعية وسنية لتكون راية الحرب الدينية الطائفية هي الأكثر ظهورا.
وانطلاقا من هذه الرؤية، قال الجربا إن الحل يبدأ بجلوس ممثلي الشعب السوري ونخبهم، بغض النظر عن اصطفافاتهم وانتماءاتهم وولاءاتهم، إلى طاولات الحوار الوطني لتهيئة الأجواء والوصول إلى توافق يؤدي إلى خروج من حالة الاستعصاء بإشراف عربي أو أممي ووجود ضمانات لتطبيق ما ينبثق عن هذا الحوار من توافقات مع الاعتراف بالحق في الاختلاف.
وأكد الجربا على أن لقاء السوريين وحصرهم للنقاط المشتركة التي تجمع معظم الأطراف السياسية، يمكن أن يكون مدخلا للبناء. فالمشتركات بين السوريين، بدءا من أشد الموالين لمعسكر النظام إلى أشد الموالين للتنظيمات الراديكالية الإسلامية أو القومية العربية والكردية والتركمانية، تتفق على وحدة الجغرافية السورية، والاختلاف حول بعض تفاصيل هذه الوحدة هو اختلاف طبيعي بحكم اختلاف وجهات النظر، ويمكن بالحوار الوصول إلى الصيغة التي يتفق عليها الجميع، حسب مصالح السوريين والواقع الذي صنعته سنوات المقتلة السورية، سواء أكانت هذه الصيغة فيدرالية أو لامركزية إدارية أو دولة مركزية.
وأشار الجربا إلى أن مسألة تداول السلطة، التي كانت ديدن الحراك السوري أثبتت، وبلا جدال، أن الديكتاتورية والاستئثار بالسلطة ومقدرات الوطن هي الابنة الشرعية للقتل والتعذيب والتهميش والمآسي والعكس صحيح. مؤكدا على أن جدلية الارتباط بين القتل والطغيان، توصلنا إلى ضرورة وحتمية اللجوء إلى الحوار السلمي البعيد عن مسائل الاحتكار والاستئثار بالرأي ومحاولات فرضه أيا كانت القناعة بصوابية القرارات والآراء، وأيا كان الرأي بالطرف الآخر. فمن يقبل بالحوار السلمي والركون إلى المفاوضات بالتأكيد وصل إلى قناعة أن التشبث بالرأي وبالسلطة لا يمكن أن يحمل الخير لأحد، لا للحاكم ولا للمحكوم، وتجارب السلطة سواء سلطة الأسد أم سلطات الميليشيات الحاكمة في أكثر من بقعة في سوريا، شاهدة على كارثية هذه المسألة، وبالتالي فإن تداول السلطة بات من البديهيات التي سيتفق عليها السوريون في حوارهم الذي “نراهن عليه وندعو إليه”.
أما مسألة الجيش الوطني السوري، فقد أكد الجربا على ضرورة الحوار حولها والتوصل فيها إلى صيغة ترضي جميع الأطراف، بعد أن تحول الجيش خلال سنوات حكم الأسد إلى جيش مجرد من عقيدته الوطنية، ووجد نفسه في مواجهة مباشرة مع المواطن المكلف بحمايته، وانتقل الجيش من مهام حماية الوطن والمواطن إلى المشاركة في قتل المواطن جنبا إلى جنب مع ميليشيات دينية في المقلبين، مقلب جيش النظام ومقلب الجيش الحر الذي تأسس كبديل مفترض لانهيار قيمي وأخلاقي في جبهة النظام، لذا فإن إنقاذ الجيش السوري من مستنقع القتل وإعادة تأسيسه على أساس وطني، أحد أهم مفاصل الحوار الوطني السوري، وطرح الجربا إمكانية الاستعانة في ذلك بتجارب دول استطاعت تجاوز محنة الحرب الأهلية والانتقال إلى المؤسسات الدستورية كجنوب أفريقيا.
وحول العلاقة بين سوريا والعالم، أكد الجربا على أنه لا يمكن قطع شرايين التواصل بين الأطراف السورية المختلفة والدول الداعمة بين لحظة وضحاها، فالمسألة باتت أعقد من أن تُفرض بـ”قرار لحظي”، ولكن الحوار والاتفاق حول المسائل الرئيسية كوحدة البلاد والحريات السياسية والاقتصادية وتداول السلطة والمشاركة فيها وبناء جيش وطني.. كلها مقدمات لفك ارتباط النظام وميليشياته بالطرف الإيراني الذي يستخدمهم في لعبة المصالح، وفك ارتباط الأطراف الأخرى من أحزاب وميليشيات وجبهات بالدول الإقليمية والقوى العالمية التي تبحث عن مصالحها على حساب الدم السوري.