حين رأى وجه … أمه!

فجأة، أخبروه أن دراجة نارية في الانتظار لنقله إلى الحدود القريبة، ولم يكن ثمة متسع للوداع أو للوصايا، ولا وقت كي يطيل النظر إلى وجه أمه العجوز، وكان كل...
مقبرة في مدينة درعا

فجأة، أخبروه أن دراجة نارية في الانتظار لنقله إلى الحدود القريبة، ولم يكن ثمة متسع للوداع أو للوصايا، ولا وقت كي يطيل النظر إلى وجه أمه العجوز، وكان كل ما قالته له: “الله معك، يُمّا!”.

كانت جنباته ترتعد خوفاً، وبصعوبة بالغة وضع مؤخرته على ظهر “الجالنك” خلف ذاك الشاب الذي لم يره من قبل. بصوت الواثق قال له الشاب: “لا تخف، ستصل بأمان، أنت لست الأول، ولن تكون الأخير، ولا تسألني عن اسمي”.

سلك سائق الدراجة طرقاً زراعية، كي يتحاشى المرور قرب حواجز وثكنات العسكر، عابراً سهول القمح ذات اليمين وذات الشمال بينما شمس أيّار تضفي عليها لوناً ذهبياً لم يعهده من قبل، وحشائش نيسان على جانبي الطريق في أواخر أيام اخضرارها.

في هذه الأثناء، راح يتذكر وجه أمه، لعله يستجلب بعض القوة بعد أن خارت كل قواه، وهو يتلمس خاصرته غير المستقرة على”الجالنك”، والشاب يصيح به: لا تتخشب، اجعل جسمك ليناً مع المنعطفات”.

كيلومترات قليلة، لكنها كانت حابسة للأنفاس.

ترجل، وراح يجتاز كرم العنب الذي يحجب عنه عيون العسكر في محرسهم الخشبي. غاصت قدماه في الوحل أكثر من مرة. بعد أمتار مكشوفة لعيون العسكر يصل إلى الساتر الترابي، ويكون في الطرف الآخر، بأمان.

عبثاً كان يحاول أن يتذكر وجه أمه. كل ما فكر فيه في تلك اللحظة أيهما سيكون الأكثر سرعة: تدفق الدم الساخن من جسده، أم صوت أزيز الرصاص.

مضت الأيام، وكلما حاول تذكر وجه أمه، كان صوت “الجالنك” يرن في رأسه، يتذكر كل التفاصيل، كسرة الخبز والبيضة المسلوقة، وكأس الشاي مع ثلاث ملاعق سكر، وصحن البندورة المحززة وحبات الزيتون، بعدها حفنة من أقراص الدواء، ويدان ترتجفان أرهقهتهما السنين، حتى الحطة والشمبر تذكرهما، إلا وجه أمه، فلطالما كان الوداع عتمة لا يجلوها الحنين.

وكان اللجوء، ومن بلد لآخر، تبهت التفاصيل وتخبو الذاكرة، إلا من “الجالنك” ولقيمات الطعام المعهود.

عبرت أمه الحدود على كرسي متحرك، وصار بإمكانه أن يرى وجهها، لولا لعنة جواز السفر.

لم يكن يفكر إلا بذاك المغربي الذي كان يروي قصته يوما ما على التلفاز، فبعد خروجه من سجن تزمامارت الذي قضى فيه ردحاً من عمره سجيناً سياسياً، وعندما اقترب من قريته، راح يركض بكل ما تستطيع قدماه، كي لا يقال له “أمك ماتت منذ دقائق”.

بعد طول انتظار، ذهب لزيارتها. لم يكن مستعجلاً، ولم يهجس بحكاية الشاب المغربي، ولا بصوت “الجالنك”، فهي هناك، غريبة، وحيدة، إلا من جيرانٍ، حالهم كحالها.

جلس بالقرب من حجرٍ يحمل اسمها. شعر أنها تنتظره وكأنه ذاك الصبي العائد من المدرسة.

عندها، تذكر وجه أمه!.

أيمن الأسود

أقسام
مقالات

أخبار متعلقة

  • بيان تعزية بالمفكر الإسلامي السوري جودت سعيد

    تيار الغد السوري المكتب الإعلامي 31/01/ 2022 بيان تعزية بالمفكر الإسلامي الراحل جودت سعيد ينعى تيار الغد السوري المفكر الإسلامي السوري جودت سعيد الذي توفي يوم الأحد الموافق 30/01/2011...
  • مخاض عسير

    ما تشهده الثورة السورية من مخاض عسير وخاصة الاختلاف الداخلي الذي يصل أحيانا إلى مرحلة الاقتتال، يؤكد أننا لم نستطع الانتقال بالثورة إلى مرحلة الأمان بعد مرور قرابة عشر...
  • لماذا سيستمر تيار الغد السوري؟

    يراهن البعض على انتهاء دور المعارضة السورية وعن فرط عقدها، ويرددون أنها ستزول في ظل هذه الفوضى. ومن هنا سيكون نقاشنا ولن نتحدث طويلا عما قدمه تيار الغد السوري...
  • مستقبلنا في سوريا حرة وموحدة

    لا يعني نقص أعداد المهاجرين إلى أوروبا أن الأمور بخير في المنطقة. تكون الأمور بخير بالنسبة للاتحاد الأوروبي والعالم باستقرار الشرق الاوسط واستقرار سوريا وإعادة إنتاج الحل السياسي. إن...