نجحت موسكو وأنقرة في تحقيق ما حاولت واشنطن عبثا القيام به، ولكنه قد يعني في نهاية المطاف انتصارا للأسد. حيث نجحت الوساطة الروسية التركية في إنجاز الهدف الأكثر طموحا في سوريا وهو وقف إطلاق النار الذي يهدف إلى إنهاء الحرب الأهلية المستمرة منذ 6 سنوات، ومن المفارقات أن هذا النجاح تم في غياب وزيرة الخارجية الأمريكية “جون كيري” الذي قضى سنوات في البحث عبثا عن حل دبلوماسي للأزمة.
وقف إطلاق النار، الذي دخل حيز التنفيذ في منتصف ليل الخميس 29/12/2016، وضع حجر الأساس لنهاية الدعم الغربي والعربي لفصائل المعارضة ومهد الطريق لإمكانية التفاوض على التسوية السياسية، وهو ما أمل باراك أوباما منذ فترة طويلة تحققه في سوريا.
من جهتها، عبرت القوى الأمريكية والغربية عن تفاؤلها الحذر بشأن الاتفاق، على الرغم من أن العديد من المحللين حذروا من أنه قد ينهار بسهولة، مع ملاحظة أن اتفاق وقف إطلاق النار هذا هو الثالث الذي تم إبرامه خلال العام الماضي. فالاثنان الآخران اللذان توسطت فيهما الولايات المتحدة وروسيا انهارا في غضون أسابيع وسط انتهاكات من كلا الجانبين.
حيث أشار جوشوا لانديس، الخبير في الشؤون السورية في جامعة أوكلاهوما، إلى أنه وبعد سنوات من الدبلوماسية المكوكية من جون كيري كان هناك غياب تام للولايات المتحدة عن أحدث جولة من المحادثات. قائلا إن غياب واشنطن أدى على الأرجح إلى التوصل إلى الاتفاق، على الرغم من أن الاتفاق يعني أيضا التخلي عن انتصار على المدى القصير للأسد وموسكو.
وأضاف لانديس في تصريح لصحيفة “فورين بوليسي” أن “غياب الولايات المتحدة كان هاما لإنجاز هذه الهدنة بسبب إصرارها على أن الأسد يجب أن يرحل”، وتابع: إن دعم فصائل المعارضة وضع واشنطن في حرج إزاء هذا الحل الأخير. “وبقاء واشنطن هادئة وتغييب نفسها عن هذه المحادثات، سمح للأسد وروسيا بتحقيق نصر على المدى القريب”.
يشمل وقف إطلاق النار 62000 من مقاتلي المعارضة، وكذلك قوات النظام وحلفائه، وفقا للمعلومات الصادرة عن الحكومتين الروسية والتركية، حيث تقوم كل من روسيا وتركيا بمراقبة الهدنة والتنسيق من خلال خط عسكري ساخن خاص.
وبموجب الاتفاق، وعدت موسكو بإنهاء القصف الجوي والمدفعي الذي دمر مناطق سيطرة المعارضة وأسفر عن سقوط ضحايا لا تعد ولا تحصى من المدنيين. فيما وعدت أنقرة بالامتثال الكامل من جانب مجموعة كبيرة من قوى المعارضة لوقف إطلاق النار، بما في ذلك أي نوع من القصف لمواقع النظام أو المواقع الروسية.
اتفقت جميع الأطراف على أن العمليات ضد جبهة النصرة وتنظيم داعش سوف تستمر كما كانت من قبل، رغم أن المسؤولين العسكريين الأمريكيين دأبوا على الشكوى من أن الطائرات الروسية نادرا ما تستهدف مقاتلي تنظيم داعش، بالإضافة إلى وصفها كل الجماعات التي تقاتل نظام الأسد بـ”الإرهابيين”، بما في ذلك تلك التي تدعمها الولايات المتحدة.
هناك الكثير من الشكوك أن وقف إطلاق النار سوف يثبت بشكل دائم. وعلى الرغم من التعهدات التركية، فإن معظم فصائل المعارضة التي وقعت على الاتفاق يحتمل أن تترك جيوبا متفرقة للمقاومة النشطة ضد قوات النظام، مما قد يؤدي إلى تجدد القتال، فإنه غالبا ما يكون من الصعب فصل مجموعة عن أخرى على أرض المعركة، بالإضافة إلى التحالفات المحلية المؤقتة والجبهات المتغيرة، وهذا ما حدا بعض المسؤولين العسكريين الأمريكيين إلى وصف المعركة بأنها “موزاييك” تختلط فيه وحدات النصرة مع جماعات أكثر اعتدالا.
وهناك أيضا مسألة الجماعات المتعددة على الأرض ممن يقاتلون من أجل نظام الأسد والمدعومة من قبل إيران. لقد عانى مقاتلو حزب الله اللبناني خسائر حقيقية على مدى السنوات العديدة الماضية، كما انضمت الجماعات الشيعية من العراق وأفغانستان إلى المعركة، ممن يتم تجنيدهم ورعايتهم من قبل إيران، لكن مسؤولا بوزارة الدفاع الأمريكية كان قد قال مؤخرا لصحيفة “فورين بوليسي” إن موسكو قد تمارس القيادة والسيطرة الشاملة على هذه المجموعات المختلفة، مع الاستمرار في زيادة الحصة الروسية من ممارسة تحمل المسؤولية في سبيل إنهاء اللعبة السورية.
بوضوح، لم يتضمن وقف إطلاق النار ميليشيا YPG الكردية، التي كانت تقوم بمعظم الأعمال القتالية في شمال سوريا ضد تنظيم داعش. بالإضافة إلى ذلك، قال أسامة أبو زيد، المتحدث باسم الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا إن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري لن يكون جزءا من المحادثات السورية المخطط لها في الأسابيع القادمة في كازاخستان.
وهذا الاستبعاد يمكن أن يعني استمرار تفجر العنف بين الفصائل المدعومة من تركيا وYPG التي تدعمها الولايات المتحدة. فالميليشيات الكردية التي يعتبر الكوماندوز الأمريكي جزءا لا يتجزأ في صفوفها يسعى مقاتلوها باتجاه معقل تنظيم داعش في الرقة. والقضية الكردية كانت منذ فترة طويلة ولا زالت نقطة خلاف بين أنقرة وواشنطن، وليس هناك ما يدل على أن وقف إطلاق النار الأخير من شأنه تخفيف حدة التوتر على هذه الجبهة.
من جهته، اعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية “مارك تونر” إلى وقف إطلاق النار “تطورا إيجابيا”، وقال إن الولايات المتحدة ستعمل على دعم استئناف مفاوضات السلام في جنيف لدعم الاتفاق. مؤكدا أن “أي جهد يسعى لوقف العنف وإنقاذ الأرواح ويهيئ الظروف لمفاوضات سياسية جديدة ومنتجة سيكون موضع ترحيب من مواشنطن”.
لكن المجموعة التي أنجزت أحدث وقف لإطلاق النار في سوريا تبدو مصممة على المضي قدما من دون واشنطن، في الوقت الراهن على الأقل. حيث أعلنت وزارة الخارجية الروسية أنها ستعمل مع تركيا وإيران لتسهيل إجراء محادثات بشأن سوريا في كازاخستان، على الرغم من أنها لم تعط أي جدول زمني بشأن متى قد تبدأ هذه المحادثات. فيما قال مسؤولون أتراك إن محادثات كازاخستان تكمّل ولا تحل محل الجهود المستمرة التي يبذلها المبعوث الخاص للامم المتحدة إلى سوريا “استيفان دي ميستورا” في جنيف.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن الولايات المتحدة ستكون موضع ترحيب للمشاركة في الاتفاق حين يتولى الرئيس المنتخب دونالد ترامب منصبه في 20 كانون الثاني/يناير.
ووفقا لتقارير وسائل الإعلام الروسية قال لافروف “أود أن أعرب عن أملي في أن تتمكن إدارة دونالد ترامب، بعد أداء واجباتها في الولايات المتحدة، من الانضمام إلى جهود إبرام اتفاق سلام سوري عملي، من أجل توجيه هذا العمل في اتجاه واحد مبني على أساس علاقات الصداقة والتعاون الجماعي”.
الاتفاق المبرم بين روسيا وتركيا يعكس تغييرا في حسابات التفاضل والتكامل في كلا البلدين. حيث أظهرت روسيا تسامحا مع فصائل المعارضة التي كانت تصفها قبل أشهر فقط بالإرهابية. ووسائل الإعلام التي ترعاها الدولة الروسية على وجه الخصوص كانت قد اتهمت في أيلول/سبتمبر الماضي حركة أحرار الشام “بارتكاب جرائم حرب مختلفة” كما اعتبرتها مسؤولة عن “معظم الانتهاكات المبلغ عنها من قبل الجيش الروسي لوقف إطلاق النار في سوريا”.
وكان لافروف قد قال لـ”روسيا اليوم” في نفس الشهر إن أحرار الشام مرتبطة بجبهة النصرة المدعومة من تنظيم القاعدة. وأضاف أنه “يبدو أن الأمريكيين أدرجوا جزء من بنية الإرهاب، الذي لا يعترف به على هذا النحو من قبل الأمم المتحدة، كمنظمة موالية لهم”.
وفي نيسان/أبريل، طلب سفير موسكو لدى الأمم المتحدة “فيتالي تشوركين” من الأمم المتحدة إضافة أحرار الشام وجيش الاسلام -وكلاهما ممن يحاربون نظام الأسد- إلى القائمة السوداء التي تضم جبهة النصرة وتنظيم داعش الإرهابي. وقال تشوركين إن المجموعتين “ترتبط ارتباطا وثيقا بالمنظمات الإرهابية”. كما كان جيش الإسلام أيضا هدفا للقصف الروسي الثقيل.
ويقول لانديس: إن توجه روسيا الحال يعكس رغبة تركيا كبح جماح فصائل المعارضة التي طالما دعمتها ضد الأسد. حيث “وضعت تركيا فصائل المعارضة في صورة أنها ستقوم بإغلاق حدودها في وجههم وأن العالم سوف يدير ظهره لدعم جهدهم العسكري الذي يسعى لإجبار الأسد على التنحي”.
ويمكن أن يمهد الطريق للحل السياسي، الذي فضله الروس والأسد منذ وقت طويل، إلى وضع حد للدعم الدولي للثورة السورية، والسماح للنظام بإنهاء الصراع وفقا لشروطه.
وقال لانديس إن “النظام تفاوض للعفو على الفصائل التي يمكن أن يتعامل معها، وسوف يقتل أو يطرد من سوريا كل أولئك الذين يرفضون رفع دعوى السلام، أو الذين يعتبرهم لا يمكن إخمادهم أو الجهاديين”.