ما الذي أوصل الثورة السورية إلى المآلات التي وصلت إليها اليوم ؟
إن هذا السؤال هو محل جدل عريض تتبادله الفعاليات السياسية والاجتماعية السورية، لعلها تستطيع أن تفهم طبيعة المسار الذي اتخذته الثورة السورية منذ بدايتها وحتى الآن.
غالباً ما ترجع الإجابة على هذا السؤال لأسباب لها علاقة ببنية النظام وممارسته القمع الشديد على مدى عقود طويلة، أو لأسباب وتدخلات ومؤامرات تسعى لمصالح إقليمية ودولية كبرى، أدت بالنتيجة لكل ما هو قائم الآن، ولا شك أن هناك جزء قدر كبير من الوجاهة والصحة فيما يتعلق بهذه الجوانب.
لكننا سنحاول أن نجاوب على هذا السؤال الكبير جدا بالحقيقة، من زاوية أخرى تماماً نحاول من خلالها أن نسلط الضوء على الإشكال الرئيسي حول هذا التساؤل.
إذا علينا أن ننطلق من ضرورة التمييز بين مفهومي التمرد والثورة.
حيث يمكننا أن نجمل تعريف التمرد، في كونه حركة احتجاجية ذات طابع عنفي غالباً، هدفها القضاء على عامل الإضطهاد أو التعسف السائد، إن كان قمع سياسي أو اضطهاد اجتماعي أو اقتصادي أو تمييز عرقي أو طبقي أو..
فهو حراك مضاد لواقع تعسفي معين، يسعى للقضاء على هذا الواقع والإنتقام منه فقط.
ما يميز التمرد أيضا في كونه لا يسعى لنشر مفاهيم جديدة بالمجتمع، أو تغيير المفاهيم السائدة، ولا يحمل أي مشروع بديل عما هو قائم، وبالتالي تكون نطاق حركات التمرد محدودة، ولا تحدث أي تغيير في بنية المجتمع او مفاهيمه، ولا يمكنها أن تستقطب الشعب أو الجماهير بأي شكل من الأشكال، كونها لا تسعى للتغيير، فالتمرد يسعى فقط للقضاء على واقع تعسفي معين والانتقام منه، لتعود الأمور فيما بعد لنفس الواقع القديم دون أي تغيير إن كان بالمفاهيم أو بالمعطيات، لا بل غالبا تكون الأمور أسوأ بكثير بعد انتهاء حالة التمرد، إذ تكون الإجراءات التعسفية التالية لعملية التمرد أكثر عسفاً واضطهاداً.
يمكننا أن نضرب مثالاً على حالة “تمرد” ما عرف بثورة العبيد في روما، حيث قام العبيد الذين كان يتم تسخيرهم للصراع حتى الموت في حلبات الصراع، أو للقيام بكل ما يطلب منهم من قبل مالكيهم، بالتمرد على أسيادهم وبالفعل نجحوا بقتل عدد منهم والسيطرة على ممتلكاتهم والتنكيل بهم وبعائلاتهم والانتقام منهم شر انتقام.
لكن سرعان ما انتهت هذه الحركة التمردية بعدما حققت أهدافها بالانتقام، ولم تسعى لأن تنشر بالمجتمع أي مفاهيم تحررية تخص منع العبودية مثلاً، أو المطالبة بحقوق هؤلاء العبيد كبشر ومنع معاملتهم كالبهائم أو غيرها، ولم تسع هذه الحركة التمردية أصلاً، لأن تبدل وعي المجتمع حول مسألة العبودية وحقوق الإنسان، وبالفعل سرعان ما تم بعدها اتخاذ تدابير أشد تعسفاً واضطهاداً بحق العبيد، حرصاً من الطبقة المالكة على عدم تكرار مثل هذا التمرد فيما بعد.
أما مفهوم الثورة فيمكننا أن نجمل ما ورد من تعاريف لها بكونها انفجار اجتماعي جذري وشامل، يسعى للتغير ويطرح بديلاُ جذرياُ عن النظام السائد – سياسي، اقتصادي، اجتماعي ..- وغالباً ما تأخذ الثورات طابع عنفي، تصنعه وتقوده نخبة ثائرة ساعية للتغيير .
وتشتمل الثورة بجزء كبير منها على حالة تمرد، حيث أن أغلب الجماهير المشاركة بالثورات هي جماهير يمكن وصفها بالجماهير المتمردة فقط، وليست الثائرة لأنها لا تحمل مشروع ولا تعي طبيعة المشروع الذي تتبناه النخبة الثائرة، وإنما هي فقط تحمل العداء والرغبة بالانتقام من النظام التعسفي السائد، وترحب بأي بديل عنه أياً يكن، حتى لو بقي النظام التعسفي نفسه ولكن تم استبدال شخوصه الذين كانوا يقومون بالإستبداد أو الإضطهاد، فإن غالبية هذه الجماهير المتمردة سيتوقف تمردها، لأنها ستعتبر أنها أنجزت ما قامت بالتمرد لأجله.
وبنفس الوقت فإن النخبة الثائرة تشارك الجماهير المتمردة حالة العداوة والانتقام هذه، ولكنها تتميز عنها في كونها واعية لطبيعة التغيير المنشود، وتحمل في يدها مشروعاً بديلاً يغير تغييراً جذرياً وشاملاً من طبيعة النظام السائد، وينهي ما كانت تعانيه من اضطهاد أو عسف.
لذلك فإننا نجد في كل الثورات أن من ينطلق بالثورة هم قلة “النخبة الثائرة”، لا يلبث تدريجياً أن تتبعهم الجماهير التي تشارك هذه النخبة فقط حالة العداء والثأر والإنتقام من النظام السائد، وترغب بالتخلص منه والقضاء عليه فقط بغض النظر عن البديل.
هنا تكمن أهمية أن تكون هذه النخبة متماسكة وقادرة على قراءة الأمور قراءة واقعية دقيقة، وأن تعمل بشكل جماعي ومخطط لكي تستطيع قيادة وتوجيه وتأطير تمرد كل هذه الجماهير -المنخرطة معهم في الثورة بدافع التمرد فقط – بإطار مشروع الثورة الذي تتبناه النخبة وتسعى لتحقيقه عن طريق الإطاحة بالواقع الحالي، وكلما استطاعت النخبة أن تلعب هذا الدور بحرفية وفعالية أكبر، كلما تحولت أعداد أكبر من المتمردين أو الجماهير المتمردة باتجاه مشروع الثورة، وكلما تضاءلت نسبة المتمردين في صفوف الثورة، وبالتالي تتجنب البلاد خلال الثورة وبعدها قدراً أكبر من الخراب والدمار والسلب والنهب، الذي سيحصل على أيدي هذه الجموع المتمردة الساعية للانتقام والثأر فقط، في خضم هذه الثورة أو تلك، وكلما كان أداء النخبة الثائرة رديئاً وغير مقنعاً للجماهير المتمردة، كلما طغى طابع التمرد على الثورة، حتى تعود الثورة برمتها أو بشق كبير منها، لكونها محض فعل تمرد ثأري بربري يدمر كل شيء أمامه، ليحقق ثأره وأول ما يدمر فهو يدمر مشروع الثورة نفسه.
من هنا نستطيع أن نقول فيما يخص الثورة السورية، أن النخبة الواعية لضرورة وطبيعة التغيير السياسي في البلاد، هي من أطلقت هذه الثورة بأعداد لا تزيد عن عشرات في كل محافظة من محافظات البلاد، سرعان ما واجهها النظام بالعسف والقمع، الذي هو بالأصل أذاق الشعب السوري كل أصناف القمع والإذلال، ما أقنع ودفع بالآلاف من الجماهير للتمرد، ومع تسارع عجلة العنف من قبل النظام، وعدم وجود أي رؤى واضحة من قبل النخبة الثائرة لمسار هذه الثورة، وكيفية التعاطي مع عقلية النظام الغير معقولة في الإجرام، لم تستطع هذه النخبة إقناع كل هذه الجماهير بشعاراتها “الشعب السوري واحد”، “الدولة المدنية الديمقراطية”، “المواطنة”، “من يقتل شعبه خائن”، “العدالة الاجتماعية”.. وغيرها من الشعارات التي تلخص مشروع النخبة المنشود في التغيير، وبدأت الجماهير التي التفت بداية حول هذه الشعارات بالابتعاد عنها، والاندفاع بدوافع انتقامية بحتة، بعيداً عن الالتزام أو تبني أي من هذه الشعارات، لا بل جرى فيما بعد تحريم وتجريم أصحاب هذه الشعارات، وعلى نطاق واسع، وبالتالي بدأ الهدم الفعلي لمشروع الثورة على يد هذه الطبقة المتمردة، التي لم تتمكن النخبة الثائرة من ضبطها وتوجيه حراكها وتحشيدها ضمن مشروع التغيير الذي تتبناه، وبدأنا نلحظ شيئاً فشيئاً ومع امتداد سنوات الثورة، وكل ما تضمنته من أحداث دامية، وتغييرات في موازين القوى، أن وعي التمرد هو ما أصبح سائداً الآن على حساب وعي الثورة ووعي الشعارات التي طرحتها النخبة الثائرة بداية الثورة، ولخصت فيها مجمل مشروعها السياسي.
في مثل هذه الحالات وعندما يطغى طابع التمرد على الثورة، نجد أن عجلة القتل والدمار لن تتوقف ما لم تتم تسوية، ستكون بغالبية بنودها على حساب مشروع الثورة، لأن الثورة ونخبها قد أنهكهم النظام السائد وعنفه، وقد أنهكوا من جانب آخر نتيجة الخراب الكبير، وخصوصاً الهدم الموجه ضد مشروع الثورة من قبل المتمردين حتى هذه اللحظة، والذين صاروا يشكلون غالبية قوام الثورة، ويطلق عليهم جزافاً تسمية “ثوار”، إلا أنهم بالواقع مجرد متمردين، كما أنهكت هذه النخب من جانب آخر، نتيجة رداءة أدائها السياسي ورداءة أدواتها وأساليبها في دفاعهم عن مشروعهم في التغيير.
محمد قنطار