ما فتئت شخصية دونالد ترامب وتوجهاته تثير الأسئلة المقلقة منذ انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، ولم يلبث أن بدأ صعوده السريع نحو تحقيق أهداف خطته للمئة يومٍ الأولى من ولايته، والتي يريد لها أن تكون مغايرة في العمق، وقوية التأثير، تستعيد فيها الولايات المتحدة وجهها وحضورها، على أسس المصلحة الوطنية الداخلية “أمريكا أولاً”، بعد أن أُنهكت قدراتها وقواها في خدمة “الآخرين” حسبما يعتقد ترامب ومستشاروه. فجاءت القرارات الأولى التي اتخذها كي تعزز المخاوف التي انتابت المجتمع الدولي شعوباً وحكومات، ويجعلها تتحسس جدية المخاطر التي سوف تضع العالم على صفيح أكثر سخونة مما عليه الحال اليوم.

عبدالرحمن مطر
ملمح الخطر الأساسي، الذي يثير القلق، هو صعود اليمين –كما يُنظر إليه– في الولايات المتحدة، البلد الذي يعتبر “الدولة الأنموذج” لحماية الحريات والحقوق وصونها والدفاع عنها، ليس على صعيد المجتمعات الداخلية، وإنما على الصعيد الدولي، بما فيها قدرة واشنطن كمؤسسات ومنظمات غير حكومية على محاربة الظواهر التي تنتج عن قوى اليمين، العنصرية، والكراهية، وانتهاك الحقوق والحريات. وقد بدا جليّاً أن وصول شخصية مثل ترامب، برؤية فريق عمله واستراتيجياته وخططه المستقبلية سوف يكون عاملاً أساسياً داعماً ومسانداً لقوى اليمين كي تصعد في أنحاء متفرقة من العالم، سيما أن أوروبا تشهد تحولات ونزوعاً من هذا القبيل، في فرنسا وإيطاليا حاليا، وقد يمتد ليطال ألمانيا، إن كان ترامب يسعى لتغيير المعادلات القائمة في ألمانيا من خلال موقفه المعلن من سياسات ميركل (الألمانية والأوروبية).
يستهدف ترامب تفكيك تجربة الاتحاد الأوروبي، التي خضعت في بداية تأسيس السوق الأوروبية المشتركة أواسط سبعينيات القرن الماضي، لشروط وابتزاز الإدارة الأمريكية آنذاك، والتي رفضت قيامها خارج مظلة حلف شمال الأطلسي، لتبقى (الأمنية الأوربية) حتى اليوم مرتبطة بالولايات المتحدة والناتو.
ولكي يتحقق إضعاف أوروبا، وإحداث تبدلات في وظيفة الناتو –في أحسن التقديرات– فإن دولتا المحور الأوروبي – الأطلسي، ألمانيا وفرنسا، ستكونا عرضة للتأثير الترامبوي في القريب.
من الواضح أن ترامب، خلال الفترة اللاحقة، بعد اتخاذه أولى قرارته في الانحياز للأداء ذي الطابع العنصري، أن إدارته لا تحفل بكل هذا الإرث والمنجز الكبير والهام الذي حققته البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والمتصل بمسألة الحقوق والحريات، على جميع مستوياتها، ولا تحترم القوانين الدولية التي ساهمت بلاده في صناعتها، وفي فرض التزام الدول بها وتطبيقها، وإن ظل هذا الأمر رهناً بمواقف الولايات المتحدة من قضايا الشعوب وحقوقها في التحرر وتقرير المصير. بل إن ذلك سيشكل نكوصاً، ودافعاً لدولٍ أطراف في الاتفاقيات الدولية، التي تبحث عن فرص وفجوات لنكث التزامها المفروض عليها، وبالتالي للإفلات من المحاسبات (الوطنية والدولية، حين تتوفر)، على ممارساتها وتجاوزاتها. الأمر بهذه الصورة مفزع جداً لجهة الفوضى والخراب الذي بدأ ترامب في تشكيل مشهده الراهن.
في الحقيقة، لا يتصل الأمر بصعود اليمين إلى الحكم، بقدر ما يمثل ذلك إفشاءً لروح التطرف والعنصرية، وخطورة انتقالها إلى الفعل، وتعدي تأثيراتها كل حدود متوقعة ومتعارف عليها. في بلد مستقر مثل كندا، منفتح ومتنوع ثقافيا واجتماعياً، كان صادماً للغاية أن يقوم طالب جامعي بعملية إرهابية تستهدف المركز الإسلامي في كيبيك، الاعتقاد السائد، الآخذ في الترسخ، أن هذا الشاب “المتطرف” هو نتاج سريع للترامبوية، لا شيء يؤسس لهذا الفعل الإرهابي ويدفع إليه مثل مشاعرالكراهية للآخر (المسلم)، وأن ألكسندري بيسونت، لم يتوانى في التعبيرعن إعجابه بترامب وتأثره المباشر بخطابه المشبع بالعنصرية.
المواجهة الدولية انطلقت شعبياً: مئة يوم من الرفض لسياسات عنصرية يمينية، تلتقي مع رفض قطاعات شعبية ومؤسسات ومنظومات سياسية واجتماعية واسعة في الولايات المتحدة، قوامها الديمقراطيون، يحركها الإحساس بمبلغ الخطورة التي تنطوي عليها سياسات ترامب، خاصة على صعيد تفكيك المكتسبات التي تحققت للأمريكيين في مجال السياسات الاجتماعية. وسوف تجر سياساته في مجال السياسة الخارجية والتجارة وبالاً كبيراً على العالم أول من يتأثر به هم الأمريكيون، والحلفاء التقليديون للولايات المتحدة، والدول التي ترتبط بمعاهات تفضيلية للتبادل التجاري معها، وخاصىة الاتحاد الأوروبي، ودول اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ودول اتفاقية الشراكة لأمريكا الشمالية (النافتا). وهذه المسائل هي تفصيل صغير في التقلبات والإرباكات الدولية التي يريد ترامب إقلاق المجتمع الدولي بها، بهدف ابتزازه وإخضاعه لشروط أمريكية جديدة في التجارة والسياسة على حدّ سواء.
ما يُخشى منه –في واقع الأمر- أن هذه السياسات سوف تضع الولايات المتحدة في مواجهة العالم، الدول والشعوب التي عبرت بوضوح عن رفضها المطلق لهذه الأفكار والمشروعات، وهي ليست ضارة، بقدر ماهي تقود إلى نمو وتمدد التطرف، العنصرية والكراهية ليست أخف وطأة من الإرهاب، بصورة ما هي واحدة من تجليات العنف أياً كانت درجته، طبيعته ومصادره. وربما قضية الموقف من اللاجئين السوريين، والمهاجرين عامة، وبناء جدار مع المكسيك، فتحت عيون العالم بأسره على هذا الرجل الذي لا يتوانى عن اتخاذ خطوات صادمة تتسم بالرعونة والمزاجية والتقلب، وبصداميتها لأخلاقيات المجتمعات، ولتعارضها في الأصل مع القوانين والمبادئ الأساسية للحريات والحقوق.
العالم خائف وحذر، يراقب ويعترض، ولكن من تراه خلال الأيام المائة الأولى من الترامبوية سوف يثبت حضوره ويجبر الآخر على الإنصات إليه؟! تلك هي واحدة من أوجه المواجهة القائمة اليوم، والتي تعيد لتحدي الطغيان ألقه.. حركة الشعوب التي أدمتها إرادات القوى التي لم تعبأ بما تتعرض له من قهر واستبداد: المثال السوري، الأشد دلالة على التخاذل الدولي.
عبدالرحمن مطر