لا زال وقف إطلاق النار الهش المصحوب بمفاوضات غير مباشرة يلقي بتفاصيله على المشهد السوري، فبينما يجتمع ممثلو الأطراف المتنازعة في أستانة وتشتعل نزاعات داخلية في صفوف المعارضة –لاسيما في محافظة إدلب- حول القبول أو عدم القبول بالمفاوضات، تستمر المتغيرات التي تُحدثها روسيا بالتأثير بشكل متزايد على مسار الصراع، فقد أثار طرح روسيا مسودة دستور سوري معدّل جدلًا متصاعدًا حول مستقبل سوريا وشكل الحكم فيها لدى كافة شرائح الشعب السوري باختلاف انتماءاتها ومواقعها الجغرافية.
كان أكثر ما أمكن ملاحظته عند قراءة مسودة الدستور الروسي اشتماله على تغييرات هوياتية وبنيوية في شكل الحكم وتعريفه داخل سوريا التي عرفت نمطًا معينًا من الحكم والهوية –أو ما تم فرضه كهوية- طوال أربعين سنةً وأكثر.
فوفق مسودة الدستور المقترحة، أزيلت كلمة “العربية” من اسم الدولة ذاتها لتصبح “الجمهورية السورية”، ومن شأن هذا التغيير المحوري أن يضع النظام والجيش “العربي” السوري وحزب البعث العربي أمام سؤال مهم لا يفرضه الروس مثلما يفرضه التغير الديمغرافي الضخم المستمر منذ سنوات في سوريا، واستمرار تجمع بعض السوريين حول هوياتهم الفرعية على أسس عرقية وطائفية.
ولا تكتفي مسودة الدستور بإسقاط كل ما يتعلق بالدين الإسلامي -حيث أسقطت أن تُستمد التشريعات منه وألغت شرط انتماء الرئيس إلى دين الأغلبية- بل وتمتد هذه التغيرات البنيوية إلى ثوابت سنها النظام السوري وشكلت الأساس الذي رسخه نظام الأسد، فهي تلغي مركزية السلطات وتدعو لتأسيس ما سمي بـ “جمعية المناطق” حيث سيشكل في كل منطقة سوريا جمعية تمتلك صلاحيات تشريعية وتنفيذية في شكل من فدرلة دولة عاشت في ظلال المركزية ردحًا طويلًا من الزمن؛ إذ سيشكل ممثلو كل تلك الجمعيات “جمعية المناطق” التي ستتحكم بالسلطات التشريعية في البلاد بعكس الدستور الحالي الذي منح السلطات التشريعية للرئيس، الأمر الذي قد يضع البلاد أمام عاصفة من الصيغ الانفصالية قد تساهم في تجدد الصراع.
وقيدت هذه المسودة سلطات الجيش السوري وحرمته من أي دور له في السياسة بل وشددت على حصر أعماله في داخل الحدود السياسية لسوريا. كما كسرت ثوابت رسخها النظام السوري لشكل الحكم في سوريا حيث احتوت مواد تدعم نظام السوق الحر في نوع من تحويل صيغة حكم من الاشتركية التي سادت طوال أربعين عامًا إلى نقيضها، أي إلى الاقتصاد الليبرالي، الأمر الذي يضع النظام وحلفائه –قبل المعارضة- أمام أسئلة جوهرية تصب في عمق طروحاتهم للشعب السوري ولما يتبنونه من أقكار.
أما عن ردات الفعل حول تسريبات مسودة الدستور، فقد أكد رئيس وفد المعارضة السورية في مفاوضات الأستانة محمد علوش “عدم نية المعارضة مناقشة المشروع”، مؤكدًا أن “الحديث في مؤتمر أستانة يجب أن يتركز حول تثبيت وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات لكافة المناطق في سوريا، والإفراج عن المعتقلين”، كما أكد رئيس المكتب السياسي في تجمع “فاستقم كما أمرت” الذي شارك في مفاوضات أستانة الدكتور زكريا ملاحفجي “أنه وبدون تلك الشروط الثلاثة الأسياسية لن تكون المعارضة حاضرة في مفاوضات جنيف حيث أن تحقق هذه الضرورات الثلاثة سينقل الطرفين للحديث عن عملية سياسية ومرحلة انتقالية، وبدون ذلك فكل شيء ليس له أهمية أو أعتبار”.
أما عن النظام السوري وحلفائه فقد ساد الترقب وعدم إعطاء مواقف واضحة انتظاراً لما تسفر عنه الأحداث أو للتأكد من جدية روسيا في طرح الموضوع وتبنيه رسمياً، إذ اعتمدت وسائل إعلام مقربة من النظام الرفض الروسي للمسودة إذ تقول روسيا أنه قدم من “مركز كارتر” الأمريكي وترفض أي محاولة لربطها به، بيد أن وسائل إعلام لبنانية مقربة من النظام الإيراني أبدت تعاطيًا أكثر إيجابيةً مع المسودة مع بعض التحفظات والحديث عن التعديلات، إلا أن النظام السوري أو الإيراني لم يتقدم بأي تعليقات حول هذه التسريبات.
علينا أن ندرك أيضاً أن هذه المسودة مجرد صيغة قابلة للنقاش والتعديل وما هي إلا اختبار لردود أفعال الأطراف المختلفة في الصراع، وقد تُفسَّر على أنها محاولة لامتصاص عنصر المفأجاة لدى المواطن السوري وذلك بالإيحاء للرأي العام أن هكذا حلول ممكنة. واللافت للنظر أن معظم بنود مسودة الدستور تتمحور حول هدف أساسي متفق عليه من قبل القوى الدولية الداعمة للصراع في سوريا، وهو تكريس مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية، مرورًا بإلغاء الهوية الوطنية السورية الموحدة، وإستبدالها بهويات طائفية وعرقية. وفي حال تم تكريس هذه الهويات “الفرعية” كنتاج الحرب، فإنها ستعزز الانقسامات. ومن الملاحظ أن المسودة تحرم سوريا من القيام بأي دور أساسي في المنطقة أو خارج حدودها مستقبلًا حيث إن الجيش السوري لن يكون –في ذلك السيناريو- إلا للدفاع عن الدولة السورية وما هو داخل حدودها فقط.
يمكن القول إن السيناريو المرسوم ” لسوريا الجديدة” هو نفس السيناريو الذى جرى تطبيقة لإقامة “العراق الجديد” وهو نفس السيناريو ذو التقسيمات والمحاصصات الطائفية والعرقية، والذي عزز فك ارتباط العراق مع العرب، وتحويلة إلى عراق ضعيف، غير مستقر ومتقاتل دون أي هوية وطنية موحدة وبعدة هويات فرعية مشحونة. يمكن القول إن هذه المشاريع لا تخدم حل الصراع السوري بل تهدف إلى تكريس صراعات أكثر حدة وامتدادًا وذات طابع هوياتي طويل الأمد.