قبل خروجه من المنزل قاصداً مكان عمله، تصفّح على عجل ما سيشرحه لطلابه في ذلك اليوم، ثم شد الرحال إلى موقف الحافلات الصغيرة التي ستقل جموع المعلمين إلى مدارسهم في القرى والنواحي القريب منها والبعيد، وكل همه أن يحظى بفرصة الجلوس بجانب المعلمة الجميلة، صاحبة الابتسامة العريضة، والذوق الرفيع في انتقاء ملابسها.
… وكان له ما أراد
بعد أن وصل إلى المدرسة، مزهواً بنصف ساعة كاملة قضاها جاراً للقمر، عَنّ على باله أن يجرب حظه في التهرب من الوقوف في تحية العلم، وذلك كان من هواياته المحببة، كلما استطاع إليها سبيلا. كان دائما ينتهز الفرص السانحة لفعل ذلك، بل ويخلقها أحياناً، كأن يسهب في شرح فكرة لأحد الطلاب في الأروقة الداخلية، أو أن يذهب إلى الحمام ويطيل المكوث فيه مخاطراً بما سيتفتق عنه ذهن الخبثاء من نظريات تفسيراً لذلك، إلى التثاقل في مشيته لعله يصل مع انتهاء ذلك الوقوف “الوطني”، إلى غيرها من حجج يومية متنوعة شريطة أن لا يمسكه أحد بجرم الغياب المشهود عن تلك المراسم، مع علمه أن عدم وقوفه في طابور الصباح لن يجعل منه بطلاً صنديداً.
… وكان له ما أراد
خلال الاستراحة الأولى، وأثناء تناول كأس الشاي مع بناة الأجيال، دار الحديث حول الخدمات المجانية التي تقدمها الدولة الحنون لأبنائها المواطنين.
مغتراً بما أنجزه في الساعات الأولى من ذلك اليوم، قرر أن يدلي بدلوه، ربما لأن منسوب “الأدرينالين” كان عالياً بعض الشيء، ففتح فمه قائلاً أن التعليم والصحة عملياً ليسا مجاناً، وضرب مثالاً عن جارتهم التي استدانت مبلغاً من المال أول العام الدراسي لتلبي احتياجات ابنها من الدروس الخاصة، ثم أسهب في الحديث عن المشافي الخاصة والابتزاز الحاصل فيها، لأن المشافي العامة تضع المرضى على قوائم الانتظار لشهور عديدة، ناهيك عن مستوى الخدمة الرديء فيها، والفظاظة تجاه المراجعين وذويهم.
قبل أن ينهي كلامه، وبينما هو في أوج مرافعته الكاشفة الناقدة، جاءه الرد ساحقاً ماحقاً من مدرس القومية، صاحب الوجه الأصفر الفاقد للملامح، وكأن أفعى نفثت سمها في وجهه منذ قليل، أو أنه مات خنقاً منذ عدة أيام وعاد للحياة للتو، حيث راح يصول ويجول بالقول، مزبداً مرعداً، مدبجاً قصائد المديح في القطاع العام، وسرعان ما تحول الأمر إلى صراخ وردح، ثم انتقل إلى سب المشافي في الدول المجاورة، ووصل به الأمر إلى أن المشافي البلدية أفضل بكثير من نظيراتها في الغرب الرأسمالي، وأن تجربته الشخصية في أحد المشافي البلدية خير دليل على ذلك، فيما بدى أن ما سيقوله هو البرهان، والقول الفصل.
قال إنه منذ سنوات، عانى ابنه الذي كان في الصف السابع من ارتفاع في الحرارة، ما دفعه لنقله إلى المشفى، حيث النظافة، وملائكة الرحمة المتشحات بالبياض الناصع، وعناية الأطباء الفائقة بالمرضى، والأدوية ذات المفعول السحري. ومع كل مثال يأتي على ذكره، كان صوته يرتفع أكثر فأكثر، حتى كادت حباله الصوتية تتورم من كثرة التسبيح بالحمد والشكر للقائمين على تلك العطايا.
وقد حمي الوطيس، أُسقط في يد “طويل اللسان” الذي لم يكن لديه ما هو طويل سوى لسانه، وراح يتصبب عرقاً، ولم يعد يفكر إلا بالطير الذي بات يحوم فوق رأسه، وبعش الدبابير الذي تسبب في نكشه، وكان كل ما استحوذ على تفكيره حينئذٍ ما سيجيب به عناصر الأمن في آخر ذاك النهار عندما يسألونه عن المسكوت عنه الذي بقي في رأسه.
هنا، استشعر أكبر الحاضرين سناً خطورة الموقف، بعد أن قرأ الرعب في وجه “طويل اللسان”، فأراد تغيير الموضوع، وقال: “على كل حال، الحمد لله على سلامة الصبي، يا رجل. في أي صف ابنك الآن؟” فأجابه بصوت مبحوح أن الصبي بعد أسبوع من دخول المشفى، مات فيها، ولسان حاله يقول “قرير العين، هانيها”!.
أيمن الأسود