تدمير سوريا الذي بدأ قبل ست سنوات يظهر علامات محدودة على أنه تراجع، بالرغم من الدعم الذي يتلقاه نظام الأسد من إيران روسيا، والذي بموجبه استعاد آخر معقل حضري في الجزء الشرقي من مدينة حلب في كانون الأول/ديسمبر العام الماضي.
إن وقف إطلاق النار الجزئي غير المكتمل على الإطلاق بين تشكيلة مذهلة من القوات التي تحتشد في ساحة المعركة، بما في ذلك الروسية والأمريكية والإيرانية والتركية والكردية والميليشيات الشيعية، مع استمرار الحرب ضد تنظيمي داعش والقاعداة اللذين لايزالان يضربان قلب النظام، كما ظهر ذلك مع هجوم على مقر المخابرات العسكرية في حمص الشهر الماضي، دفع الثوار وفصائل المعارضة لإعادة تجميع قواهم لحماية أنفسهم، والانخراط في محادثات حول إنهاء الحرب يبدو أنها لا تحرز أي تقدم.
الرئيس فلاديمير بوتين، الذي كان لسلاحه الجوي دور حاسم في إنقاذ الأسد وساعد في سحق حلب وإحالتها إلى أنقاض، يقول لأوروبا اليوم هلمي وساهمي في تمويل إعادة إعمار سوريا.
هذه هي الوقاحة بعينها. مقولة “أنت كسرها، إذا أنت تملكها” أصبحت ديدن الجيوسياسة بعد استخدام الولايات المتحدة لها في عام 2003، عندما أطلقت ثورًا لتحرير متجر خزف صيني في العراق، حيث بلغت تكلفة الحرب ضد الجهاديين، الذين باتوا أكثر خبثا، مئات المليارات من الدولارات. ولكن روسيا ترجمت هذه المقولة في سوريا بطريقتها الخاصة فأصبحت على ما يبدو “نحن كسرناها، أنت تدفع ثمنها، لكن نحن وأصدقاؤنا نملكها”.
لا شك أن الكرملين يرى مؤشرات على أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب قد تخلت أي فكرة الإطاحة بالأسد، وكذلك أوروبا ترى ذلك، لكن الذعر السياسي من أي زيادة أخرى من المهاجرين واللاجئين من المنطقة بسبب بقاء الأسد يبدو بالغ الأهمية للطرفين.
إلا أن الثقة التي تبديها كل من موسكو وطهران لا ينبغي أن تخفي عنا حقيقة أن لديهم معضلة حقيقية ومكلفة جراء ما اقترفته أيديهما في سوريا.
أولا، إلى أي مدى تسيطر حكومة الأسد على ما يقرب من 35 في المائة من الأراضي السورية؟، إنه موضع نقاش. فقد أدى نقص قوى الأقلية العاملة للنظام إلى جعلها تعتمد على روسيا وإيران وقوات شبه عسكرية كحزب الله اللبناني. كما أجبر دمشق على التعاقد من الباطن مع أمراء حرب وميليشيات وجيوش خاصة من المبتزين والمستثمرين المتربحين من اقتصاد الحرب بقصد إيجاد نوع من السيطرة المحلية الفسيفسائية الواهية، تم القضاء ما يقرب من نصفها على يد فصائل المعارضة حتى الآن.
ثانيا، إلى أي مدى روسيا وإيران على استعداد لمساعدة الأسد في الخروج من دويلته المتبقية وإعادة احتلال ما تبقى من سوريا؟. الدولة السورية يكاد يكون من المؤكد أنه ليس لديها قدرات أو قوات لاستعادة وحماية الشرق. انظروا كيف تتغير الأيدي المسيطرة على تدمر، هذه الجوهرة اليونانية الرومانية في وسط سوريا، بين داعش والأسد. كما حدث مؤخرا حين سيطر عليها التنظيم إبان انشغال الأسد بالسيطرة على حلب الشرقية، ثم استعادها النظام بعد تكثيف الولايات المتحدة الأمريكية الغارات على التنظيم في عدة مواقع. إن الصراع السوري يتلون ويتغير شكله باستمرار، وسيكون من السفه أن يرهن بشار الأسد بقاءه في قصره على استمرار مثل هذه التحالفات الشاذة والتناقضات على الأرض السورية.
ثالثا، إن السيطرة المزعومة للنظام على “سوريا المفيدة” تمنحه راحة زائفة. وبصرف النظر عن حقيقة الاستقرار فيها، فإن كثيرين ممن تبقى من الجهاديين ينتشرون في أرجائها، وهذا يعني أن الشرق كله تقريبا “عديم الفائدة”، وهو مجرد صحراء ليس إلا بالنسبة للنظام. إن صمود نظام الأسد، البالغ 50 عاما تقريبا، يحتاج موارد الطاقة والمحاصيل القادمة من الشرق. محافظات الرقة والحسكة ودير الزور تنتج 60 في المائة من الحبوب في البلاد، و75 في المائة من القطن فيها، وجميع موارد النفط والغاز منذ عام 2010، قبل الثورة، بعيدة عن خزانته ولا يستفيد منها. والشرق ضروري للنظام لاستعادة الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي، وتوليد الكهرباء في سوريا يعتمد على حقول الغاز الموجودة في شرق البلاد، وقد انخفض إلى حوالي ربع ما كان عليه قبل الحرب.
إن روسيا وايران يتعين عليهما أن تقاتلا من أجل استعادة كل سوريا، وتكلفة ذلك دم ونقد، وربما يزيد ذلك بدرجة كبيرة من منطقة الحكم الذاتي الخاضعة للأسد، ولكنه كلف إيران وحدها ثمانية مليارات من الدولارات سنويا منذ 2013، وهي تعتمد على عائدات النفط والغاز في وقت انخفضت فيه الأسعار، وكلاهما، روسيا وإيران، يخضعان لعقوبات دولية.
صحيح، أن موسكو استفادت من عقود الانتفاع طويلة الأجل على المنشآت المطلة على البحر المتوسط في طرطوس، وتعتزم توسيعها بالإضافة إلى قاعدة حميميم الجوية قرب اللاذقية، وأن الحرس الثوري الإيراني كوّن امبراطورية تجارية أمنتها عقود شركات الاتصالات وتعدين الفوسفات والميناء وتوليد الطاقة. لكن الحد الأدنى من الأموال اللازمة لإعادة بناء سوريا يبلغ 250 مليار دولار، وربما يصل، على أعلى تقدير، إلى ضعف ذلك، ولن يكون هناك طوابير من الدول لتقوم بأعباء إعادة الإعمار تلك دون استقرار واتفاق على تقاسم السلطة.
إضافة إلى ذلك فإن “الواقعية” التي تترسخ في بروكسل “الاتحاد الأوروبي” وواشنطن تحتاج إلى مزيد من المدخلات عما هو موجود حاليا على أرض الواقع. الأوروبيون، على وجه الخصوص، يائسون من أن يتحول تيار اللاجئين للعودة إلى سوريا، وينبغي أن يكون واضحا لهم أن بعض التغييرات الديموغرافية تمت بشكل مقصود من قبل النظام لتكون دائمة، ورعاة النظام أيضا يجب أن يأخذوا وقتهم في التفكير في الفوضى التي باتوا يمتلكونها.
ديفيد غاردنر – فاينانشال تايمز
ترجمة تيار الغد السوري