أيها الأخوات والأخوة، يا أبناء وبنات شعبنا السوري، أهلنا الكرام حيثما كنتم:
الخير أن تكونوا أنتم. الكرامة، العزة، الحرية تليق بكم. أن تكونوا أنتم بخير يعني أن العالم بخير. أملنا أنتم ومسعانا إليكم وبكم، ومعكم نحيا. دونكم لا شيء يستحق التوقف عنده.
يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك بالصدق وإن قتلك. وأما الشيخ الأكبر، محي بن عربي، فيقول: “من صدقت سريرته انفتحت بصيرته، ومن صدق مقاله استقام حاله”.
أيها الأخوة والأخوات الأعزاء في الوطن والمهاجر:
لا يختلف اثنان في هذا العالم أننا كسوريين أمام إحدى أكثر المنعطفات الوجودية وعورة وضبابية في تاريخ ومستقبل بلادنا. نعم إنها الأصعب، إنها الأخطر على بقائنا واستمرارنا، المرحلة التي تتطلب مواقف مسئولة ومتزنة وصادقة، وتتطلب سوريين وسوريات على قدر هذه المسئولية التاريخية، مرحلة لا تتكأ فيها السياسة والمواقف على بيع الوهم أو تجارة الكذب والبؤس.
مرحلة من الضروري فيها غسل الدم الملوث بآفات الدكتاتورية وأخلاقها بضخ دماء جديدة غير ملوثة ليتحول المشروع الوطني الديموقراطي، مشروع الكرامة والحرية لقوة جاذبة لأغلبية حقيقية. علينا الاعتراف أن أنصار الديموقراطية والمدنية والتحضر، أنصار الحرية والكرامة الذين هتفوا “الشعب السوري ما بينذل” و”واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”.. “حرية حرية” سجلوا تراجعا مرعبا في الشارع السوري أمام هول وضجيج الخطاب الطائفي الاستئصالي الأعمى وتجاوزاته وجرائمه.
خلال السنوات الست الماضيات، كشفت منظومة الاستبداد عن كل وجوهها القبيحة، وارتكبت أفظع الانتهاكات. وبالتوازي مع تلك الانتهاكات الفالتة من أي عقال، فقدت قطاعات كبيرة من المحسوبين على معشر المعارضة، أو من الذين قفزوا من مراكب النظام المتهالكة إلى المعارضة، البوصلة التي تشير إلى الجهة النقيضة من إشارات النظام وتحولاته، ولبست أقنعة لا تختلف كثيرا عن وجوه النظام وأقنعته، وباتت المسافة بين أخلاق المجرم والضحية من الصعوبة أن تُرى، وذابت تماما في جسم الجلاد وثقافته وأساليبه، وبات أمر التفريق بينهم في السلوك والأخلاق والأهداف أمراً عسيراً. هنا بدأت البلاد تتهاوى.. نعم بمقدور شعبنا السوري مواجهة نظام أرعن ولا مشروع لديه إلا التسلط على رقاب الناس، لا قيمة للحياة عنده. يعرف ذلك السوري قبل أن يخرج إلى الشارع ويرفع صوته عاليا “حرية حرية” متحديا الرصاص والزنازين، يعرف ذلك أجيال من السوريين، من الرضيع إلى الشيخ العجوز، ولكن ما لم يكن يعرفه ولا يستطيع تحمله أن يكون من يتنطع ليصير البديل في مثل أخلاق النظام وأهدافه، تلك هي المصيبة الكبرى التي أضيفت لكاهل السوري في سعيه للتغيير.
أهلنا وأخوتنا الأعزاء:
من سخريات القدر أيضا، تحوّل الكثير من الإعلام الثوري، الإعلام الذي أفرزته ظروف الثورة، إلى شيء أشبه بصدى مريب لإعلام النظام الذي ثار عليه، بات هدفه الحط من الأخلاق الثورية القائمة على القطيعة مع أخلاق النظام وخطابه. لم تدخل في وعيه مسألة إعادة الاعتبار لمنظومة أخلاقية سورية حقيقية ونقية، منظومة سورية صافية وصادقة، منظومة هي جزء لا يتجزأ من تاريخ وثقافة شعبنا وتراثه. المنظومة التي كانت هدفا لحرب النظام طوال عقود تحكمه، وازدادت وتيرة هذا الاستهداف حين خرجت الجموع منادية بالكرامة والحرية، همّش هذا الإعلام الثوري أو المحسوب على الثورة، الخطاب البديل القائم على الشفافية والصدق والمعرفة الأصيلة، لكننا هنا كسوريين جميعا ندرك اليوم أن هدفهم وديدنهم كان كل هذا الخراب والدمار. نعم إنهم شركاء النظام في انتاج هذا الخراب. نعم ندرك جميعا هذا، وندرك أننا قادرون على صياغة صوتنا كما يليق بشعب أثبت عبر تاريخه أنه كان رائدا في التحضر وخطاب السلام والمحبة والقبول. لم نكن يوما متوحشين حتى نقبل بكل هذا التوحش الذي فتك بنا وباسمنا.
في هذا الأيام العصيبة التي لا تحسب فقط كنتاج لسنوات عجاف من عمر البلاد والعباد، وإنما كانتكاسة، لا بد من دق أجراس الخطر، وإلا ستكون الخسارات أكبر من تحتملها القلوب والأفئدة، وتكفي دروس السنوات الست الدامية لنأخذ منها العبر ونبني عليها انطلاقتنا في العام السابع من ثورتنا التي لا بد لها أن تحقق أهدافها في الحرية والكرامة والعزة والوئام.
أهلنا وأخوتنا أبناء وبنات شعبنا السوري:
منذ عام أسسنا تيار الغد السوري استنادا إلى هذه المعايير، معايير الصدق والصراحة والشفافية والموضوعية وصياغة الصوت السوري كما يليق بتاريخنا ومكانتنا بين شعوب الأرض ومحيطنا. وإننا إذ ننتظر جميعا العام السابع من عمر ثورتنا نؤكد معكم وبكم أننا مستمرون على الثوابت السورية التي كانت المعيار الأول لانطلاقة انتفاضة شعبنا. أولها: السوريون أخوة ولن تفرقنا الطوائف والأعراق والأيديولوجيات.
“واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”.. وأيا كانت التجاوزات التي ارتكبت باسم هذه الطائفة أو تلك، وباسم هذه المجموعة أو تلك، فإننا عشنا وسنعيش سوية وسنبني وطناً لنا جميعاً. للجميع ومع الجميع. عربا وكرداً وتركماناً وسرياناً وآشوريين وأرمن.. بأدياننا وطوائفنا ومذاهبنا، باختلافنا، بتعددنا. اللوحة المتعددة التي منحت بلادنا ثراءها المعرفي والفكري. هذه أول الثوابت وداعمنا وموئلنا الأساسي. وستؤكد الأيام أننا لن نصل إلى الخطوة الأولى إن لم نُعِد الاعتبار إلى هذه المسألة البديهية في تكوين سوريا، ومن يفكر بغير ذلك لا نستطيع إلا أن نسميه أحد اثنين: إما أنه لا يريد الخير لسوريا والسوريين وإما مغبون.. إما أنه لا يتمنى وجود بلاد اسمها سوريا أو واهم سرقته الوقائع الدامية من الواقع.. إما شريك في الاستبداد أو ضحية يستلذ بوضعه ويتمنى استمرار الاستبداد والطغيان.
نعم أيها الأخوة إن ذلك هو خيارنا. سوريا واحدة موحدة لجميع أبنائها وبجهودهم جميعا.. لا استئثار ولا تهميش.. لا ظالم ولا مظلوم.
سوريا العدل والحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص
العدل أساس الملك وعضده. نعم العدل، وأول الخطوات نظام سوري للعدالة والمساءلة ومحاكمة مرتكبي جرائم الحرب.
الانطلاق من الواقع المعاش. الواقع بحقائقه الصادمة والمأساوية هو الأساس في أي خطاب يهدف إلى البناء، ولعل الخطأ الكبير الذي وقعنا فيه كنخب سورية وكمعارضة ديمقراطية هو تغليبنا للآمال المعقودة من انتفاضة شعبنا على تحليلنا للطريق نحو تحقيق تلك الآمال، فتم التغاضي عن هذا وذاك، عن تلك الجماعة والأخرى، تم التغاضي عن الأفكار الميليشياوية الطائفية التي هي في الأساس الراعي الحقيقي للنظام وعضده في الاستمرار.
ومعطوفا على ذلك، تم لي ذراع الثورة ووضعها في خانة دفع ضرائب الجماعات الإسلاموية المتطرفة التي كفّرت وتكفّر المجتمعات والدول والبشر، ولم تكن تهدف في يوم من الأيام إلى البناء أو السلام، وإنما لتعميم الخراب حيثما حلت. إنها نقيض الحضارة، سواء في بلادنا أو في باقي المجتمعات الإنسانية، وكان من سوء حظ بلادنا أن اجتمعت الأفكار الميليشياوية من أصقاع الأرض بمختلف مذاهبها وطوائفها على أرضنا. لنقف اليوم على الدمار الذي يثير شفقة العالم أجمع، دمار الإنسان والبيئة، دمار كل شيء، دمار لابد لنا من وضع حد له ونستطيع. نعم نستطيع.
نعم أيها الأخوة، تم اختطاف مشروع الثورة، ولكن لا تستطيع قوة أن تخطف أحلامنا وإرادتنا. لا توجد قوة على الأرض تستطيع قتل حلم أو إرادة. صحيح أن التكاليف باهظة. صحيح إن في القلب غصة كبيرة وكبيرة وهائلة، لكننا مدركون ومؤمنون بإدراكنا هذا أن إرادتنا في استعادة الوجه الحقيقي لبلادنا لا غبار عليها. الوجه الحضاري المتجذر في أرضنا ودمائنا. نعم نستطيع جميعاً ومعاً أن نضع حدًّا لهذه الحرب المستعرة على أرضنا. سنوقفها بالمحبة والتضامن والتماسك الاجتماعي.
نعم أيها الأخوة، الأساس الأول: وحدة الشعب السوري ووقف الحرب، ومن ثم محاكمة مرتكبي الجرائم من كل الطوائف. “نعم للتسامح ولا للقتل” ليكن شعارنا اليوم. التسامح لا يعني أن نترك القاتل يمر بجريمته وكأن شيئاً لم يكن. المجرم يجب أن يعاقب في محاكم يستطيع السوري أن ينشئها ويديرها، تاريخنا يشهد على قدرتنا على المسامحة والمحاكمة، ولدينا أشقاء وأصدقاء في المشاعر الإنسانية النبيلة سيكونون بجانبنا في هذه المحاكمات. نعم للمصالحة المجتمعية. نعم لتجسير الهوّة بين الطوائف والقوميات والأديان ولا لمنطق الكراهية الذي لا يستفيد منه إلا جنرالات الحروب وتجار السلاح والبشر.
أيها الأخوة والأخوات:
لا نعترض على أي جهد يسعى لوقف نزيف الدم. ليس منا من يحاول عرقلة الجهود السياسية للحل. وقف الحرب أولا وقبل كل شيء. الحوار ثم الحوار بين ممثلي كل الأطراف السورية بلا استثناء وبلا شروط. نعم الحوار هو ما يميز البشر عن باقي الكائنات التي خلقها الله تعالى. الحوار حول شكل الخروج من المعضلة التي وجدنا أنفسنا فيها بعد ست سنوات من صرخة السوري “حرية”. الحوار الذي رفضه النظام جملة وتفصيلا على مدار سنوات. الحوار الذي رفضته قوى الشر التي حملت رايات دينية وطائفية متشعبة. طالبنا كسوريين ومنذ اللحظة الأولى بالحوار، ولكن لم يقبل لا النظام ولا الجماعات التي تدّعي العقيدة الصحيحة. لم يقبل الطرفان بأي حوار، لم نسمع منهم إلا لغة الانتصار على جثة السوريين. قلنا منذ اللحظة الأولى لا بديل عن الحوار وما زلنا نراهن عليه، الحرب والمغالبة لا يحملان إلا الكراهية والخراب.
أن تصل أخيرا خير من ألّا تصل أبدا. تلك من بداهات الكلام، وأما أن نبقى صامتين في أماكننا دونما جرأة البوح فتلك هي المصيبة، وقد صفعتنا الأيام كسوريين جميعا، وكنخب سياسية قبل الجميع، إن الطريق للبناء لا يمر أبدا أمام الجماعات الطائفية والمذهبية أيا كان لونها، ولا يمكن لمراهن على تلك الجماعات إلا جني الخراب والدمار والمآسي، وكلما تقدمت الأيام كلما تضاعفت المأساة حتى تتحول إلى جزء لا يمكن إزالته. وإننا إذ نتحدث عن الشفافية والصدق نؤكد أن اللجوء إلى الصمت كآخر الحلول أفضل من شهادة الزور وصناعة الأوهام والمشاركة في الزيف بما لا يقارن.
والله تعالى جل جلاله والوطن من وراء القصد.
عاشت سوريا والخير والسلام لأهلها
سلام. حرية. مساواة. عدالة اجتماعية. تنمية هدفنا
المجد والخلود للشهداء والعار كل العار للقتلة ومن يواليهم أيا كان لونهم وانتماءهم.
أحمد عوينان الجربا
15/3/2017