البلاد التي خرجت في مثل هذا اليوم، قبل سنوات ست، هي بلاد منذورة للحرية، وهو نداء الناس في وضح النهار وصوت سريرتهم، التي أطلقتها الضلوع، ليس انتصاراً -فحسب- لأطفال الجدار اللذين نقشوا عليه كلمات هزت عرش الطاغية، وإنما تعبيراً عن إرادة لم يعد ممكناً لجمها. ولم يكن أطفال درعا يدركون أن حروفهم التي غيرت مجرى الأحداث، ليست سوى ممارسةً مثلى للحرية، وتفعيلاً لمبدأ ظل مخنوقاً لزمن طويل، هو الحق في التعبير.
شكلت قضية الحرية، جوهر الثورة السورية، دافعها الأساس، وغاية الانتفاضة التي ما تزال جمرتها وقّادة على الرغم من كل المحن التي أصابت الشعب السوري، بكينونته الإنسانية، بمدنه وأريافه، بالخراب العميم، في سعي محموم لإخماد إوار الثورة، لأن فكرتها هي الحرية، وفي ذلك تطلّع نحو أعلى القيم التي سبغت المجتمع الإنساني برمته، كغاية مثلى، لا يمكن الركون إلى جعلها فكرة وقيمة مجردة، دون أن تجد طريقها في المسلك اليومي للبشرية، وفي إضفاء روحها في كل القوانين الناظمة للمجتمعات البشرية.
هي ثورة الحرية والكرامة، وهما قيمتان متلازمتان، ولدت متمازجة بين تاريخين ومدينتين: 15 – 18 آذار 2011، في دمشق التي أبرزت تظاهرتها الأولى مسألة الكرامة حين أعلنت أن الشعب السوري لا يمكن إذلاله. ومن درعا، التي نادت بالحرية بصوت قوي وواضح. هناك رسمت الإرادة الوطنية المقدسات الثلاث “الله، سوريا، حرية”. وأن لا شيء يتقدم على الحرية. ارتفعت المطالب إلى أعلى درجات الرفض لاستمرار واقع الاستكانة والصمت، الذي دُمغت به الحياة السورية لنصف قرن مضى. خمسون عاماً كان لها أن تجعل من سوريا بلداً متقدماً، لو أن الحرية لم يصادرها نظام أمني، وظّف أيديولوجية البعث، والصراع مع العدو الصهيوني، من أجل فرض سيطرته الاستبدادية الغاشمة على المجتمع السوري الناهض والثري التنوع.
الحقوق والحريات، هي مطلب السوريين، الذين دأبت سلطات القمع على انتهاج سياسات منظمة لانتهاك متعمد لحقوقهم وحرياتهم الأساسية التي تنص عليها الدساتير الوطنية، وتقرّ بها القوانين والأعراف الدولية، وصولاً إلى مصادرتها عبر قوانين فرض الطوارئ، وإنشاء المحاكم الأمنية – العسكرية، ذات الطبيعة الخاصة، غير الخاضعة لأي رقابة دستورية، على تحقيقاتها وأحكامها. وحجبت تلك السلطات، حق التعبير، والنشر، والاجتماع، وتكوين الجمعيات والأحزاب.
ظلت هذه الحريات، العامل الحاسم في الصراعات التي خاضها النظام البعثي – الأمني، ضد السوريين منذ 1963، متوّجة بجحيم عهد الأسد الأب، الذي أسس لمنظومة سالبةٍ لـ “الحرية” من الحياة السياسية، وبالطبع انسحب ذلك على الحياة العامة وتمظهراتها الثقافية والاجتماعية، مع نشر مظلّة الرعب والأثمان الباهظة التي يُندر أن دفع شعب عبر التاريخ ثمناً من أجل الحرية والديمقراطية، كما السوريين. فنالت من المجتمع برمته، وحرمته التنمية المتوازنة والتطور النوعي، وخنقت روح المبادرة والإبداع، وجعلت منه شعباً تحت ساطور الحاكم القاتل.
ولم تكتف المنظومة الأسدية بمصادرة الحريات والحقوق، بل إنها عمدت إلى إحلال بدائل لما يمكن اعتباره مؤسسات للعمل المدني، أفرغت مضمونه لصالح أنساق سلطوية، لا تنتمي الى الفكر، أو الإيديولوجيا، ولا إلى العمل المدني الذي صودر مبكراً بقرارات إيقاف جمعياته، منذ العام 1963: هكذا ولدت الجبهة الوطنية التقدمية، والمنظمات الشعبية.
خرج السوريون قبل ستة سنوات، من أجل الحرية والكرامة. فعمل النظام بكل ما أوتي من قدرات ووسائل، بدعم إيراني – روسي غير محدود، لمواجهة مطلب الحرية بمزيد من ممارسة القمع، لم تقف عند حدود الاعتقال والتعذيب وإجراء المحاكمات الميدانية والعسكرية للمطالبين بها، وإنما وصلت إلى استخدام أشد الأسلحة فتكاً، الأسلحة المحرم استخدامها دولياً ضد المدنيين، ما جعل من نصف تعداد السوريين ضحايا، بين شهداء وجرحى، نازحين، مهجرين ولاجئين، وتدمير معظم المدن، بسبب التزامهم مطلب الحرية.
وقد سجلت الثورة لحظات انعطاف تاريخية، تتصل بالحرية كفكرة، كمبدأ وغاية، ونجح الحراك الوطني في مراحلها الأولى في بناء تطبيقات لها على الأرض، وفي أشكال المواجهة مع نظام القمع، وفي بناء خلايا ومجموعات العمل الثوري، ما بشر فعليّاً بأن الثورة السورية تنتصر حقيقة لمبادئها وغاياتها.
لكن كل ذلك سرعان ما تبخر!. مع دخول الثورة السورية طور التسلح، برزت معالم فرض الرؤى والمسارات بقوة السلاح، وكانت النتيجة المباشرة هي تراجع قيمة ومكانة الأفكار والحوار، وبالطبع العمل المدني، أو ما كان يطلق عليه حينها “السلمي”، وتمت مصادرة حرية التعبير أولاً، وإذا كانت الرسالات السماوية جميعها، وفي مقدمها الإسلام، حرصت على حرية الإنسان، وأن الله خلق الناس أحراراً، وجعلهم مخيّرون في المعتقد وفي مسالك الحياة، فإن القوى الإسلامية التي انضوت في إطار الثورة، أو ما يُفترض أنها فعلت ذلك، واجهت السوريين، بمنع الحريات وتكميم الأفواه، على خلافٍ تام مع تعاليم الإسلام بشأن الحرية. غير أنها لم تكن لوحدها، فقد سقطت معظم القوى السياسية – المدنية، في رهان الحرية والممارسة الديمقراطية.
لقد تبدّى ذلك جلياً في التضييق على نشطاء الحرية، وعلى أوجه أنشطتهم، تلك اللصيقة بالثورة السورية وقضاياها الجوهرية، وعملت على إقصاء ممنهج لأي أدوار سواء لأشخاص أو تجارب يفترض أن تقود إلى تعزيز قيم الحرية وممارسة الديمقراطية. أجهضت بتدخلاتها المجالس المحلية ومؤسسات العمل المدني، لاحقت الكتاب والصحفيين: محررين ومراسلين ومصورين، ومع تنامي غطرستها وولوغها في الفساد، بدأت بإغلاق المكاتب الإعلامية والمدنية، عملت بكل جهد لمنع حرية التعبير، اختطفت النشطاء، غيبتهم، وقتلت من قتلت.
ولعل آخر تمظهراتها، جرت قبل أيام، فيما يتصل بمجلة “طلعنا ع الحرية” والتبعات التي تمثلت باستغلال المسألة من قبل “جيش الإسلام” للانقضاض على ما تبقى من فسحات ضئيلة للحرية، أعني بذلك “مؤسسات العمل المدني” التي تم إغلاقها، ثم أعيد افتتاحها تحت ضغوطاتٍ شتى، دون أن يعني ذلك تطوراً في مسألة فهم حرية العمل الإعلامي والمدني.
حالات وحوادث كثيرة جداً، يصعب تجاوزها ونسيانها، وأسماء شخصيات معنية بالحرية وحرية التعبير مغيّبة. لا مجال لتعدادها الآن، غير أن ما جرى في دوما مؤخراً، يحيلنا إلى اختطاف نشطاء الحرية “رزان زيتونة” و”سميرة الخليل” ورفاقهما. وما يحدث في المناطق المحررة ( الخاضعة لسلطة الجماعات والتنظيمات المسلحة) من مداهمات وإغلاقات لمقار العمل المدني: المجالس المحلية – الإعلامية – المدنية الخدمية.
سجل حافل بمعاداة الحرية على أرضية التكفير، وفي ظل التسلط على مقدرات ثورة كانت فكرتها الأساس وقيمتها الجوهرية وغايتها هي الحرية.
لم تستطع كل تلك القوى بما امتلكته من قدرة في المال والسلاح والوصول إلى الإعلام الأكثر انتشاراً أن تقوّض فكرة الحرية، وأن تبني عالمها الذي يتخبط في كل اتجاه، مع ضياع الهويات الوطنية، بين ما تريد، وما يريد الممول، وما يجب أن تكون حال الثورة السورية عليه.
سوف تبقى قضية الحرية تقضّ مضاجع أعدائها، أعداء الثورة السورية، التي تستعيد ألقها وحيويتها، مع تجدد التماس المباشر مع الحرية كمبدأ وخيار، وغاية والحديث عنها ليس مجرد تنظير وأوهام وأحلام، فمن خبِر قيمتها وفضاءها، سيظل هاجساً يسكنه ويسعى إليه.
لقد كسر السوريون حاجز الخوف والصمت، وليس ثمة سوى الحرية في الأفق. فما كتبه أطفال درعا هو “نبوءة خلاص”: سيرحل الديكتاتور.. وسيزول نظام القتل والخراب.
عبدالرحمن مطر