الدكتور محمد خالد الشاكر
مقدمة
لا يمكن الحديث عن المرحلة بين الإعلان الدستوري والدستور، دون المرور بالمحددات الأساسية لأطروحات بناء الدولة السورية، التي أصبحت محكومة –نتيجة للصراع الدامي- بالأطر القانونية الصادرة عن المنظمة الدولية، وارتباطها الوثيق بواقع تدويل الصراع، ما يجعل من إشكالية صوغ الدستور –بوصفه مهمة وطنية- تجنح نحو عملية تتداخل فيها الفواعل الخارجية، من جهة، والتحولات الطارئة على بنية الدولة السورية سياسيًا ومجتمعيًا، من جهة أخرى.
تستتبع إعادة هيكلة السلطة وتراتبها في مراحل ما بعد الصراعات الدولية؛ أو ما يُطلق عليها اصطلاحًا بـ “إعادة بناء الدولة”، تحولات جذرية في مؤسسات الدولة، حتى يتسنى لهذه الأخيرة، أداء الوظيفة الأمنية والسياسية والاجتماعية، بكفاية تستند إلى الشرعية والرضا المجتمعي.
وبناء عليه؛ تصطدم الحال السورية -خلال المرحلة الانتقالية- بفكرتين أساسيتين ستلقيان بظلالهما على آليات بناء الدستور:
الأولى– تاريخية الهيمنة السياسية للنظام السوري الذي غيّب فكرة المعارضة السورية.
الثانية– حال الاستقطاب الحاد بين النظام والمعارضة، إذ مازال الطرفان لا يحيدان عن فكرة “كل شيء أو لا شيء”، ما يعني التباعد الحاد سياسيًا الذي سيراكم صعوبات جمة على عملية التوافق، وبسبب هذا التراكم التاريخي والاستعصاء السياسي الحالي، أصبح الطرفان (النظام والمعارضة)، يفتقران إلى لخبرات القادرة على إدارة التعددية السياسية.
ترتكز عملية بناء الدولة في الفترة الفاصلة بين الإعلان الدستوري والدستور على مراحل أساسية تسير تراتبًا؛ تبدأ من القدرة على خلق حال من التوازن بين القوى السياسية، وبما يدعم مفهوم تقاسم السلطة أو “الحكم المشترك” الذي يتضمن ثلاث مراحل توافقية، هي:
المرحلة الأولى: التسوية السياسية؛ بوصفه مصطلحًا دبلوماسيًا يستند إلى آليات تجنب الحرب، من خلال التفاوض، الذي يفترض تقديم كل طرف بعض التنازلات إلى الطرف الآخر. وتسوّى الخلافات بين الأطراف من خلال ضمانات يُعترَف بها على الصعيد الدولي. ومن ثَم؛ فإن التسوية السياسية تهدف إلى تفاوض عقلاني، يؤدي إلى تجنب اللجوء إلى الصراع المسلح، وتجنب العودة إليه.
المرحلة الثانية: الإعلان الدستوري، وآليات صوغ الدستور؛ وتتضمن المسائل المتعلقة بصوغ دستور جديد، وتحديد الجدول الزمني الذي يبدأ بالإعلان الدستوري؛ إذ يشكل الأخير –في فقه القانون الدستوري- مجموعة المبادئ القانونية، التي تتضمن القواعد التي تتأسس عليها الدولة في حال سقوط الدستور أو إلغائه.
إذن؛ يشكل الإعلان الدستوري الفيصل بين أطراف التسوية السياسية، والوثيقة الأساسية الناظمة للمراحل الثلاث -آنفة الذكر- التي تحدد مسارات وأركان عملية الانتقال السياسي، وذلك بالتوافق على المحددات الرئيسة الآتية:
المحدد الأول: شكل النظام السياسي؛ أي: اختيار نظام الحكم الأمثل، سواء أكان رئاسيًا، أم برلمانيًا، أم مختلطًا (شبه رئاسي)، أم مجلسيًا.
المحدد الثاني: شكل النظام الانتخابي الذي يعد من أهم أركان عملية الانتقال السياسي، ويحدد آلية تداول السلطة، سواء أجَرى بطريقة نظام التمثيل النسبي Proportional Representation أم نظام الأغلبية Majority system. ويتضمن هذا المسار جميع المسائل المتعلقة بضمان انتخابات حرة ونزيهة.
المحدد الثالث: استدامة العملية السياسية التي تُبنى على مأسسة العلاقة بين المدني والعسكري؛ بالتوازي مع مسارات عملية الانتقال السياسي، ونزع السلاح ودمج الفصائل المسلحة في مؤسسة عسكرية وطنية لا تتدخل في السياسة، وتدافع عن السلطة، بحيث يكون الدمج أفرادًا وليس مجموعات، وفي الحال السورية تبرز محاربة الإرهاب استراتيجية عامة، تتوازى مع جميع المراحل والمسارات.
المرحلة الثالثة: آليات صوغ الدستور، وتشكل المرحلة التأسيسية، أو المدماك، لإعادة بناء الدولة، كون الدستور يشكل رابط التوفيق بين أطراف التسوية، والضامن النهائي لصوغ العقد الاجتماعي المنشئ للدولة.
وغالبًا ما تتحدد عملية صوغ الدستور في خيارين محكومين بشكل التوافق السياسي، فإما انتخاب جمعية تأسيسية تتولى عملية صوغ الدستور، وإما عن طريق ما يعرف بـ ” اللجنة الدستورية”، التي يتم اختيارها بالتوافق بين النخب السياسية خلال مرحلة التسوية، وفي كل الأحوال تتألف الجمعية التأسيسية أو لجنة صوغ الدستور من مجموعة من الخبراء والقانونيين بهدف صوغ الدستور، قبل عرضه على الاستفتاء العام.
أولًا – الإعلان الدستوري
تتضمن فكرة الانتقال السياسي “عملية سياسية بقيادة سورية، تسيّرها الأمم المتحدة، تقيم حكمًا ذا صدقية يشمل الجميع، وتتضمن الخطوات الأولى نحو انتقال سياسي برعاية الأمم المتحدة1 يتناول جميع المسائل المتعلقة بإنشاء حكم موثوق وشامل وغير طائفي2.
وأول ما يتبدى خلال هذه المرحلة، قدرة النخب السياسية وأطراف الصراع على التوافق حول مسألتي شكل الدولة، وطبيعة النظام السياسي فيها، وهذا يقتضي بالضرورة عدم استبعاد أي طرف في الصراع3، سواء أكان من مولداته أم من مفرزاته.
تعمل الثورات أو الانقلابات العسكرية على نسف الشرعية الدستورية السائدة، لتحولها إلى شرعية ثورية، ومن ثَم؛ تعطيل الدستور، ما يستلزم عملية تقنية معقدة وشاقة، تتبدى أولى خطواتها، بما يعرف بـ “الإعلان الدستوري”.
* الطبيعة القانونية للإعلان الدستوري؛ يتضمن الإعلان الدستوري، الإطار القانوني والسياسي في المرحلة الانتقالية التي تؤسس لسلطة تعمل للمساواة بين المواطنين أمام القانون، بغض النظر عن جنسهم أو اثنيتهم أو معتقداتهم الدينية. وتضمن حرية الرأي، والتجمع، والانتماء السياسي، وتحدد العلاقة القانونية بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتلغي المحاكم الاستثنائية، بما يؤسس للغايات التي يتوخاها الإعلان الدستوري، بدءًا بمنح الحقوق المدنية والسياسية مباشرة، وتحديد شكل النظام السياسي، وشكل النظام الانتخابي.
تشكل الطبيعة القانونية للإعلان الدستوري، وثيقة دستورية موقّتة، تتضمن عدة مواد عامة وبسيطة؛ لذلك، جرت العادة ألا يتجاوز الإعلان الدستوري بضع صفحات، تضطلع بوضع الضوابط القانونية التي تسيّر أمور البلاد خلال فترة زمنية محددة، تنتهي بإنشاء الدستور الجديد للبلاد، وعودة مؤسساتها الدستورية إلى العمل.
ولعل من أولى مهمات الإعلان الدستوري وضع البدائل للسياسات القائمة خلال المرحلة الانتقالية، عبر عملية قادرة على صوغ عقد اجتماعي قادر على الملائمة والمواءمة بين متطلبات التسوية السياسية، وحاجات التحول الديمقراطي.
* مهمات الإعلان الدستوري؛ لقد أخذت الحال السورية نمطًا مغايرًا لما شهدته المنطقة من تحولات؛ ما أدخل البلاد في أتون صراع دولي وإقليمي، سيلقي –دون شك- بتداعياته على أسس إرساء المرحلة الانتقالية وإعلانها الدستوري؛ ما جعل عملية كتابة الدستور مهمة وطنية، تحتاج إلى متخصصين للمساهمة في آليات ” بناء الدستور”، بوصفه عملية علمية شاقة وعميقة، شاملة لمجموعة التقاطعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية.
يشكل الإعلان الدستوري صوغًا لمقدمات التسوية السياسية التي تضمن تحولًا ديمقراطيًا في إطار عملية توافقية، تعيد تأهيل المؤسسات السياسية، في إطار “حوكمة” تهدف نهائيًا إلى تطوير الآليات والأسس القادرة على الدفع بعملية السلام ودعمها؛ وتقليل الثغرات التي تؤدي إلى عودة الصراع، من خلال استعادة ثقة المواطن بالدولة، وهو ما يتطلب عملية توافقية بين الأطراف كافة، لوضع قواعد عامة مشتركة، بدلًا من التنافس أو الصراع على قضايا خلافية، وصولًا إلى عقد اجتماعي جديد.
ولهذا؛ يصبح الإعلان الدستوري وثيقة المصالحة التي تحدد شكل الدول؛ والعلاقة بين سلطاتها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في إطار عملية تضمن قاعدة الفصل المرن بين السلطات، وتطبيق مبدأ المشروعية، أو ما يعرف بمبدأ “تسلسل القواعد القانونية الذي يحقق فكرة دولة قانونية تحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم العامة، ويخضع فيها الجميع -حكامًا ومحكومين- تحت سقف القانون.
ثانيًا- خيارات شكل النظام السياسي
يشكل اختيار النظام السياسي منعكسًا لجملة التجاذبات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالبلاد خلال مراحل الصراع، ومن ثَم؛ فإن عدم تحديد الشكل الأنسب للنظام السياسي، رئاسيًا كان أم برلمانيًا، قد يؤدي إلى أزمات تعصف من جديد بالسلم الأهلي.
يعد النظام السياسي منتجًا لمجموع الثقافات والفلسفات التي تعكس واقع البنى الاجتماعية والسياسية. وإذا كانت جميع نماذج الأنظمة السياسية في العالم وليدة مراحل طويلة في طريق الديمقراطية، إلا أنّ تحديد شكل النظام السياسي، ظل منعكسًا لمجموع البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة في مجتمع معين مدة زمنية معينة.
وبناء عليه؛ يصبح شكل النظام السياسي في الأزمات، أوفي مراحل ما بعد الصراع، محكومًا بالضرورات التي تحتمها واقعية الاستقطابات السياسية، والثقافة المجتمعية، خصوصًا عندما تقف جميع القوى على مسافة واحدة من الحكم. وفي هذا الخصوص، سنعرض لأهم أنموذجين من الأنظمة السياسية؛ فغالبًا ما تنحصر فيهما الحال السورية، وهما النظام الرئاسي والنظام البرلماني، واضعين نصب أعيننا ميزات وسيئات كل نظام على حدة، وصولًا إلى تحديد النظام السياسي الأنسب:
* النظام الرئاسي؛ يمارس فيه رئيس الدولة السلطة التنفيذية بأكملها، بما في ذلك السلطة التنظيمية، إذ يسيّر السياسة الخارجية، وهو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، ويمكنه -أيضًا- التدخل في المجال التشريعي، إما عن طريق خطاباته التي يوجهها لأعضاء حزبه، أو عن طريق تقديم مشروعات قوانين بواسطتهم.
ويمارس رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بأكملها؛ إذ تتركز السلطات بيد رئيس الجمهورية الذي يرأس السلطة التنفيذية، وتقوم فلسفة النظام الرئاسي على فكرة ” الأكثرية”، التي تنعكس على مؤسسات الدولة؛ لذلك، فتركيز السلطة بيد رئيس الجمهورية (رئيس السلطة التنفيذية) يعطي الرئيس ” الغنيمة الكبرى”، ويعطي مجالًا رحبًا للأحزاب الكبرى؛ للاستحواذ على القرار، في عملية دستورية غالبًا ما تجنح في دول التحول الديمقراطي إلى ما يشبه الفصل الجامد بين السلطات، بل والعودة من جديد إلى الدكتاتورية في معظم الأحيان. وهوما شبهه الفقيه الدستوري Linz Juan بعبارة The Winner Takes It All4 (الفائز يأخذ كل شيء)، ونعتقد أنه غير وارد التطبيق في المرحلة الانتقالية للحال السورية التي تتأسس على مشاركة جميع القوى السياسية، كبيرها وصغيرها، في حكم تعددي ديمقراطي، لا يستثني أحدًا.
* النظام البرلماني، ويقوم على ما يُعرف في الفقه الدستوري بـ “ثنائية الجهاز التنفيذي” (رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة)، وتكون مسؤولية الوزارة مسؤولية تضامنية أمام البرلمان، يقابلها عدم مسؤولية رئيس الجمهورية سياسيًا؛ إذ يختص بأمور شكلية بروتوكولية، ويقوم على الفصل المرن بين السلطات، فللسلطة التنفيذية الحق في اقتراح القوانين والتصديق عليها (المراسيم الاشتراعية)، يقابل ذلك حق السلطة التشريعية في مراقبة أعمال السلطة التنفيذية، في عملية تقوم على التوازن والتداخل؛ إذ يحق للسلطة التنفيذية دعوة البرلمان إلى الانعقاد، وحتى حله، كما يحق للبرلمان استجواب الوزارة، وحجب الثقة عنها.
يشكل النظام البرلماني الحل الأنسب لحسم تجاذبات واستقطابات العملية السياسية خلال المرحلة الانتقالية، لسبب وحيد؛ مؤداه قدرة النظام البرلماني على تشكيل حكومة توافقية – ائتلافية، تأخذ في الحسبان القوى أو الأحزاب الصغرى. وهنا نشير إلى أهمية الأخذ بآلية التمثيل النسبي في الانتخابات، عند الأخذ بالنظام البرلماني؛ لما لذلك من دور في منع استئثار الأحزاب الكبرى في البرلمان، وتذليل كثير من الصعوبات بين جميع القوى المتنافسة؛ لأن الأخذ بنظام الانتخاب الأكثري داخل النظام البرلماني، سيعيدنا إلى قاعدة “الفائز يأخذ كل شيء”، ما يعني إفراغًا لفكرة النظام البرلماني، بوصفه حلًا توافقيًا ائتلافيًا.
وتظل أهمية الاختيار للنظام السياسي مرتبطة باستقرار البلاد، ومدى قدرتها على ممارسة الديمقراطية؛ لذلك، تظل العوامل الثقافية التي تسود وتحكم المجتمع، وقدراتها الاقتصادية، أهم عاملين في ديمومة واستقرار وفاعلية النظام السياسي5.
لذلك؛ يبقى النظام البرلماني بتمثيل نسبي، أكثر ضمانة وفاعلية، خصوصًا فيما يتعلق بعقدة “تقليص صلاحيات الرئاسة” التي تشكل في المدى المنظور، في الحال السورية، التنازل الوحيد الذي يمكن أن يقدمه النظام للمعارضة، في حال الحكم المشترك.
وبناء عليه؛ قد يكون النظام الأنسب للحال السورية، هو النظام البرلماني بنظام انتخاب نسبي.
ثالثًا- خيارات شكل النظام الانتخابي
يشكل الاختيار الأمثل للنظام الانتخابي، عاملًا محوريًا في إنجاح عملية التسوية السياسية، وركنًا مهمًا من أركان عملية الانتقال السياسي؛ لسبب وحيد مؤداه أنّ العملية الانتخابية هي الآلية التي تحدد تداول السلطة بين الفرقاء السياسيين، وفقًا للدستور الجديد6.
ويفرق الفقه الدستوري بين نوعين من النظام الانتخابي:
* نظام التمثيل النسبي Proportional Representation؛ وفيه يحصل كل حزب على عدد من المقاعد، يتناسب وعدد الأصوات التي حصل عليها في صناديق الاقتراع في الدائرة الانتخابية التي تجري فيها الانتخابات؛ ويساعد هذا النظام في تمثيل أكبر عدد من الأحزاب داخل المؤسسة التشريعية.
* نظام التمثيل الأكثري، أو نظام الأغلبية Majority system؛ وفيه يستحوذ الحزب الذي يحصل على أغلبية الأصوات، على جميع المقاعد المخصصة للدائرة الانتخابية، إعمالًا بمبدأ 7Winner Takes All..
وعلى الرغم من أن هذا النظام يقوم على استيعاب التعددية السياسية والمجتمعية، ويسهم في توسيع المشاركة في السلطة، إلا أنه غالبًا ما يؤدي إلى حصول الحكومة على الأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية؛ ما يؤهلها لتشكيل الحكومة، دون أي ائتلاف مع باقي القوى السياسية؛ ما يعني الاستئثار بالسلطة لصالح حزب واحد، وتهميش مطالب وتطلعات الأقلية، مقابل الأكثرية التي تتجاهل في كثير من الأحيان الـ 49 في المئة، بوصفها أقلية تقع خارج الحكومة.
لذلك؛ يتحول تطبيق النظام الأكثري إلى نوع من الديكتاتورية المغلفة بنظام ديمقراطي؛ في الدول التي مازالت تعاني من ضعف في الممارسة الديمقراطية، ولا سيما عندما يكون بناء المؤسسات الرقابية هشًا، أو منحازًا إلى الحزب الحاكم، وتغيب عنه آليات الرقابة القضائية على أعمال السلطة التنفيذية، أو غياب القضاء الإداري الذي يضطلع برقابة القرارات الإدارية؛ ما ينعكس انعكاسًا مباشرًا على متطلبات الدولة القانونية التي تضمن حقوق الأفراد وحرياتهم العامة.
رابعًا- بين الجمعية التأسيسية ولجنة صوغ الدستور
تُعدّ الجمعية التأسيسية، أو لجنة صوغ الدستور، الهيئة التي تتولى السلطة التشريعية خلال المرحلة الانتقالية، والمنوط بها إعداد دستور جديد للبلاد. وتتضمن نخبة من الأكاديميين المختصين بالقانون العام؛ لما لوضع الدستور من خصوصية دقيقة، تتعلق بالأمور التقنية، والمصطلحات الخاصة بقسم القانون العام التي لكثرما أدى الإخلال بها إلى أزمات دستورية، أعادت البلاد من جديد إلى الصراع في كثير من البلدان.
وتُختار هذه الهيئة بطريقتين، بحسب مقتضيات العملية السياسية التي تقدم -أحيانًا- الدستور على الانتخابات، أو تلك التي تقدم الانتخابات على الدستور.
1 – الجمعية التأسيسية (بين الانتخاب والتعيين)؛ ويُؤخذ بهذه الطريقة في حال إجراء انتخابات برلمانية، فيختار البرلمان المنتخب أعضاء هذه الجمعية، ويكلفها بمهمات وضع الدستور الجديد، وتتألف من أعضاء قد يصل عددهم إلى مئة عضو، وقد يتشارك في اختيارهم كل من البرلمان ومجلس القضاء الأعلى، وفي هذه الحال تُمنح الجمعية التأسيسية مدة معينة لوضع الدستور بصوغه النهائي.
ويعقد البرلمان والمؤسسات القضائية المختصة خلال هذه المدة عددًا من الاجتماعات تُشكَّل فيها لجان فنية لاستقبال ما يقدمه النواب والرأي العام حول الآليات المتبعة لاختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التي يُفترض بها تمثيل أطياف الشعب كافة، وتعمل اللجان الفنية -كذلك- لعقد اجتماعات يجري فيها التصويت على نسب تشكيل الجمعية التأسيسية، من البرلمان ومن خارجه؛ إذ غالبًا ما تكون نسب التمثيل متساوية بين المنتخبين من داخل البرلمان أو خارجه، قبل أن يصوّت البرلمان عليها تصويتًا نهائيًا.
وتفيدنا التجارب التاريخية بنوعين للجمعية التأسيسية:
الأول- الأنموذج الأميركي (الجمعية التأسيسية المنتحبة محصورة الاختصاص)؛ وتكون الجمعية التأسيسية منتخبة من الشعب الذي يضطلع باختيار ممثليه؛ للقيام بهذه المهمة، فتنحصر مهماتها في وضع الدستور، ولا يمتد عملها خارج ذلك (مثلما حصل في الجمعية التأسيسية الأميركية 1776).
الثاني- الأنموذج الفرنسي (الجمعية التأسيسية متعدية الاختصاص)، ويتبدى هذا النوع في أعقاب الحركات الثورية، ومراحل التغيير الشامل في المجتمعات، إذ يتعدى عملها وضع دستور للبلاد، ليتعداها إلى مباشرة الاختصاصات التشريعية والتنفيذية، إلى حين الانتهاء من المرحلة الانتقالية (مثلما حصل في الجمعية التأسيسية الفرنسية 1879).
وعلى الرغم من ديمقراطية انتخاب الجمعية التأسيسية من الناحية الشكلية، فإنها تحتاج إلى ثقافة مجتمعية، لا يمكن معها القياس على الحالتين الأميركية والفرنسية، خصوصًا في الحال السورية؛ لأنها ستصطدم –كما هو حاصل في مراحل ما بعد الصراعات الداخلية- بأوضاع صعبة معقدة، خصوصًا مع بقاء المجموعات المسلحة، وأزمة اللاجئين والنازحين؛ ما يلقي بظلاله على العملية الانتخابية التي لن تتجه –نتيجة لحال الاحتقان- إلى اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية على أساس الخبرة القانونية والدستورية، بسبب التجاذبات الحادة سياسيًا وطائفيًا؛ ما يفرز جمعية غير مؤهلة وطنيًا وقانونيًا.
2 – لجنة صوغ الدستور (طريقة التعيين)؛ يعيَّن أعضاؤها من خلال توافق سياسي، بدلًا من الانتخابات، وتتولى صوغ دستور للبلاد؛ وفي الحالتين تشرف الجمعية التأسيسية، أو لجنة صوغ الدستور، على إنشاء الأحزاب السياسية، والاتحادات والنقابات والجمعيات، وتراقب النشاط الاقتصادي، وتُصدر التشريعات الملائمة، وتعمل على تأسيس هيئة الانتخابات لإدارة العملية الانتخابية، وتقدم جدولًا زمنيًا لإجراء انتخابات وطنية خلال فترة زمنية محددة بعد صدور الدستور الدائم، دون أن يتعارض ذلك مع إجراء انتخابات محلية.
ولعل أولى المهمات التي تقع على عاتق الجمعية التأسيسية، أو لجنة صوغ الدستور خلال المرحلة الانتقالية، العمل لاستعادة ثقة المواطن بالدولة التي تبدأ بتعزيز سيادة القانون، وإعطاء الأولوية لحقوق الإنسان، في إطار عملية إصلاح وإعادة هيكلة مؤسسات القطاعين: القضائي والأمني، ويتقدم الإصلاح القضائي عملية الإصلاح المؤسساتي، من خلال تشكيل مجلس القضاء الأعلى الذي يضطلع بعملية التمكين؛ لمراقبة القضاء من داخله، ومراقبة القضاء للسلطة التنفيذية، وتمكينه من الإشراف على عملية العدالة الانتقالية، وتطوير آليات الرقابة على السلطة التشريعية، من خلال الإشراف على عملية العدالة الانتقالية، بإنشاء محكمة دستورية مستقلة، ووضع جدول زمني لصوغ الدستور الدائم وتقديمه لاستفتاء وطني.
خاتمة
بعد هذا العرض المبسط، بإسقاطاته على حال الصراع في سورية، تبدو عملية بناء الدولة السورية، مهمة أكثر من شاقة، حتى إن نجحت التسوية السياسية؛ فتعارض المصالح الإقليمية والدولية ستكون العائق الأكبر في وجه بناء الدولة السورية، فالصراع مازال أبعد من كونه صراعًا داخليًا، في الوقت الذي مازالت فيه مسألة الاتفاق على تداول السلطة غائبة، في ظل استقطاب حاد بين الأطراف السورية ذاتها. فعلى الرغم من قناعة الطرفين بأنهما غير قادرين على إقصاء الآخر بالسلاح، وهو ما رتب ذهابهما إلى محادثات لم تأخذ حتى هذه اللحظة صفة “التفاوض”.
ويصطدم -كذلك- بناء الدولة السورية ببنية المعارضة السورية؛ بسبب الصراعات البينية بين قوى المعارضة السياسية من جهة، والصراعات البينية بين المسلحين على الجغرافيا السورية كاملة، على الرغم من تقاسم مناطق النفوذ؛ ما يعيق فكرة التفاوض مع النظام، ويعيق فكرة الحوار السوري – السوري أيضًا.
الأهم من ذلك هو افتقار العملية السياسية إلى فكرة السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية للدولة السورية، ولا سيما أن المعارضة المصنفة إرهابيًا، مازالت تتمدد على رقعة واسعة من الإقليم السوري، إضافة إلى أنها تشكل الثقل الأكبر أمام هامشية المعارضة التي توصف بالمعتدلة؛ ما يجعل الحديث عن تسوية فعلية اقتسامًا لدولة فاشلة، أكثر من كونه مسارًا لبناء الدولة.
وبذا تصبح استراتيجيات العمل على بناء الدولة السورية، مرهونة بوقف إطلاق النار، بوصفه مقدمة ضرورية للاتفاق على ضمانات بناء الثقة في المرحلة الانتقالية، بدءًا بالإعلان الدستوري وانتهاءً بصوغ الدستور، بوصفها آليات قانونية – تقنية تحتاج إلى الحد الأدنى من السلم الذي يستلزم -نفسه- توافقًا لا يوقف الحرب وحسب، وإنما يقيم الدولة أيضًا.
الهوامش
1 – انظر: الفقرتين 4 و5 من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، تاريخ 18 كانون أول/ ديسمبر2015.
2 – انظر التقرير المقدم من المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا “إحاطة إعلامية مقدمة إلى مجلس الأمن عن محادثات جنيف: جدول أعمال من أربع سلال، ترجمة: وحدة الترجمة والتعريب 11 آذار/ مارس 2017، على الرابط:
3 – http://harmoon.org/archives/4284
4 – انظر: http://www.constitutionnet.org/ar/news/ma-bd-alsra-kyf-ymkn-aadt-bna-aldwlt-alswryt-bd-altswyt
5 – Linz, “The Perils of Presidentialism”, Journal of Democracy, Washington (1) 1990, p: 56. Juan
6 – Seymour Martin Lipset, “The Centrality of Political Culture”, Journal of Democracy, Washington 1 (4): p 80-83.
7 – بحسب القرار 2254، “يمكن أن تُعقد في غضون 18 شهرًا، وتدار تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يرضي الحكم، وفقًا لأعلى المعايير الدولية للشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين، بمن فيهم أولئك المؤهلون للمشاركة في الشتات”.
8 – http://www.constitutionnet.org/ar/news/ma-bd-alsra-kyf-ymkn-aadt-bna-aldwlt-alswryt-bd-altswyt
لتحميل الدراسة كاملة من هنا