رويدا رويدا بات يمكن القول إن سوريا تسير فعلا على طريق الفيدرالية كحلٍ لقضيتها، ولكن ليست كأي فيدرالية نمطية وإنما فيدرالية من نوع خاص، فيدرالية بعيدةٌ تماماً عن ما كان متداولا خلال الأشهر الماضية، لاسيما مع الاقتراب أكثر من اتفاق المناطق الآمنة ومناطق خفض التوتر “أيا كانت تسميتها أو درجة الالتزام بها”.
مؤشرات الاتجاه نحو الفيدرالية كحل في سوريا لا ترتبط فقط بالاتفاق على مناطق آمنة، وإنما أيضاً في تفصيلات المشهد السوري والقوى الدولية الفاعلة ومصالحها على الأرض السورية.
لو نظرنا جيداً إلى المعادلة بعين الواقعية، فالمشكلة الأساسية ليست في تقريب وجهات نظر الأطراف السورية أو تقبلها لتسويات معينة، وإنما العقدة الرئيسية هي الوصول إلى صيغة حلٍ يرعى مصالح الدول الفاعلة التي تمتلك قوة على الأرض، ويضمن لها أيضاً استمرار نفوذها، لتتحول هنا الفيدرالية بإدارات ذاتية كمطلب دولي يضمن الحل الأنسب والأكثر جدوى لمصالحها، خاصة مع كثرة الأطراف الخارجية التي تجعل من الاستحالة على أي نظام مركزي مهما كان شكله الحفاظ كل تلك المصالح في وقتٍ واحد.
نقطتين أساسيتين أيضاً يدعمان فرضية السيناريو السابق والاتجاه نحو الفيدرالية، أولهما طبيعة النزاع الذي يؤكد أن حل المحاصصة مثلاً لن يتمكن من حفظ التوازنات والمصالح الدولية على الأرض السورية، على اعتبار أن تلك المصالح قائمة على أسسٍ جغرافية بحتة وليس على أساس ديني أو عرقي يُمَكِن من الاتجاه نحو حكومات محاصصة، بالإضافة إلى أن القوى على الأرض مقسمة وفق الموقف السياسي وليس الطائفي كما كان الحال عليه في لبنان إبان الحرب الأهلية، حتى إن بدت الحرب طائفية في نظرتها العامة.
أما النقطة الثانية، فتكمن في التأكيد على صعوبة النظر إلى التقسيم كحل نهائي للأزمة السورية؛ أو اعتبار الفيدرالية وفقا للتصور السابق بداية التقسيم، وذلك لتداخل مناطق النفوذ الدولية وانتشارها على مساحات جعرافية متباعدة ذات ديمغرافية متنوعة، وعليه فإن ما ستشهده سوريا سيمثل في الدرجة الأولى الأخيرة ترسيمَ مناطق النفوذ الدولية في البلاد وليس ترسيماً لحدود سياسية تؤسس دويلات وكيانات.
طبعاً مع التاكيد على أن واقع التقسيم “بمفهومه العام” كحل، يتعارض مع مصالح بعض الدول ذات الشأن، وعلى رأسها تركيا الرافضة لقيام كيان كردي على الحدود الجنوبية لها، وروسيا التي تمتد مصالحها على طول الحدود الغربية وصولاً إلى مناطق زراعة القمح في الجزيرة، بالإضافة إلى الولايات المتحدة التي تنظر إلى التقسيم على أنه خطوة قد يفقدها حلفاء في المنطقة وأولهم تركيا “ثاني أقوى دولة عسكرياً في حلف الناتو”، ما يؤكد أن الفيدرالية السورية ستقف عند حد الإدارات الذاتية وليست الحكومات الانفصالية.
بالحديث عن شكل الفيدرالية وتفاصيلها، يمكن التأكيد على أن سوريا وفقاً للسيناريو السابق “إذا ما تم” ستضم خمس مناطق حكم ذاتي على الأقل، المنطقة الأولى وتشمل المنطقة الشمالية الوسطى والشمالية الغربية تحت نفوذ مشترك “تركي أمريكي روسي”، الثانية منطقة شرقية وشمالية شرقية تحت نفوذ مشترك “روسي أمريكي”، الثالثة منطقة ساحلية تحت نفوذ “روسي وربما مع مصالح إيرانية محدودة”، الرابعة منطقة جنوبية “قد تلعب المملكة الأردنية وبريطانيا دوراً كبيراً فيها، مع وجود نشاط استخباراتي إسرائيلي”، وأخيراً منطقة الحكم المركزي التي تتبع لها سياسياً كافة المناطق السابقة والتي ستضم دمشق وريفها وربما أجزاء من المنطقة الوسطى”.
لا أريد الدخول بتفصيلات هذا التقسيم الفيدرالي وطبيعة المصالح الدولية في سوريا، وإنما لابد من التنويه إلى أن هذا التقسيم وطبيعته تفرضه عدة قضايا على رأسها أمن إسرائيل، والقضية الكردية بتعقيداتها الإقليمية، والدرع الصاروخية الأمريكية التي ترغب موسكو بكسره من خلال الوصول إلى المياه الدافئة، والمشروع الايراني الذي سيكون أكبر الخاسرين من السيناريو السابق، إلى جانب الأولويات الأمريكية المرتبطة بكسر التمدد الإيراني في المنطقة العربية وملفات مكافحة الإرهاب، مع الأخذ بعين الاعتبار المصالح الاقتصادية.
أما بالنسبة لتوقيت هذا الاتفاق، فمن المرجح أن يرتبط بالانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة 2020، فالعارف بالشأن السوري يدرك تماماً قوة الموقف الامريكي في الملف السوري والتي تجعلها صاحبة الكلمة الأكبر في زمن وشكل الحل، وبناءاً عليه فإن إدارة ترامب قد تنظر إلى حل القضية السورية بأي شكل من الأشكال كدعاية انتخابية لاسيما مع تفاقم الحالة الانسانية وارتباط القضية السورية بمكافحة الإرهاب.
هنا يمكن القول إن أخطر ما قد تشهده سوريا بحسب السيناريو الفيدرالي هو إمكانية ان تستغل القوى الدولية فترة العامين القادمين لتزيد من قوتها على الأرض بما يمكنها من زيادة قوتها في مفاوضات النفوذ وشكلها، ما يعني مزيداً من التوتر والعمليات العسكرية ليس بين النظام والمعارضة، وإنما بين فصائل المعسكر الواحد على اعتبار أن تقسيم القوى على الأرض وقتها سيكون على أسس هوية الداعمين وليس بناءاً على الموقف من الثورة والنظام، وهو ما ينطبق ليس على المعارضة وحسب وإنما حتى على القوى التابعة للنظام والمقسمة إيرانياً وروسياً”.
أين الأسد من هذا ؟؟
أكثر ما يمكن تخمينه حول النظام الفيدرالي المفترض، أنه لن يكون هناك مكاناً فيه للأسد، فبحسب الاتفاق “إذا ما تم بالصورة المفترضة” فإن بقاء الأسد لن يمثل أي مصلحة لأي طرف من الأطراف الدولية بما فيها روسيا، على اعتبار أن الادارات الذاتية ستمتلك صلاحيات الحكم المحلي كاملة “كما هو الحال في ألمانيا مثلاً” ما سيخفض من صلاحيات السلطة المركزية بما فيها الرئيس، وعليه فإن الاحتفاظ بالاسد في هذا الحل سيمثل ثقلا ً على المجتمع الدولي وخصوصاُ على الحليف الروسي لابد من التخلص منه بعد الجرائم التي ارتكبها النظام على مدار سنوات.
خلاصة القول، إن الصراع في سوريا اليوم بات صراع نفوذ دولي وليس معارضة ونظام أو منصب، وبحسب المشهد السياسي والتحركات الدولية يبدو ان البلاد باتت على بعد اتفاق دولي من إعلان فدرالية على النمط الألماني “دون أن تقسم لسوريا شرقية وغربية”، كحل يهدف للحفاظ على مناطق النفوذ الدولية والإقليمية عبر إدارات حكم ذاتية لتلك المناطق، بعيداً عن الدخول في فرضيات التقسيم والمحاصصة، وهو ما يعني حكماً أن ورقة إعادة انتاج الأسد باتت محروقة تماماً، وأنه اليوم فعليا رهينة اتفاق ترسيم حدود النفوذ الدولي ليس أكثر.
حسام يوسف – تيار الغد السوري