5 يونيو، 2017 511 مشاهدات
“كاترين”، جارتي في البناء الذي أسكن فيه حالياً والمؤلف من أربعين شقة يقطن أغلبها العجائز اللواتي يكبرنها وهي التي شارفت على الثمانين، لم تُنجب سوى بنتاً واحدة تعيش مع زوجها في بريطانيا. ما أعرفه عنها أنها تهوى شراء الورود. ففي كل يوم أحد، تذهب صباحاً لتشتريها وتنعم بصحبتها في زوايا بيتها. ومن عادتها أيضاً شراء كميات كبيرة من الشوكولا التي تتناول بعضها وتوزع الجزء الأكبر على صغار العمارة (ليتني كنت أحدهم!). لا زالت تحتفظ بدراجتها الهوائية التي أهداها إياها زوجها بمناسبة عيد ميلادها قبل عدة أعوام من وفاته. تزور طبيب الأسنان بانتظام، وغالباً ما تقضي الأعياد والعطل مع ابنتها في رحلة سياحية تتفقان على مكانها وزمانها قبل شهور من موعدها المحدد.
“كاترين” من غُلاة المحافظين على البيئة، فهي نادراً ما تستخدم سيارتها وتفضل المشي أو ركوب دراجتها الهوائية للتسوق والتنقل وأكثر ما تكرهُ هذه العجوز التلفزيون. لم تُدخله إلى بيتها قط، وتقول أنه جهاز رعاعي ومصدر للضجيج، وتعتبر ان البيت للراحة والقراءة وسماع الموسيقى. تجيدُ العزف على البيانو وأحياناً تُمضي بعض الوقت في المطبخ تصنع الحلويات. تتابع كل جديد في المسرح ودور الأوبرا ولا تترك معرضاً للكتاب إلا وتزوره لتشتري ما يروق لها من عنواين. تمتلك قطعة أرض صغيرة تزرع فيها بعض الخضار وتحرص على عدم استخدام الأسمدة والأدوية الزراعية.
أم ياسين، جارتي في تلك الحارة من بلدي، أيضاً بلغت الثمانين من عمرها. عاشت مع أبو ياسين زوجة مطيعة حتى وفاته تاركاً وراءه ثمانية أبناء وست بنات. تسكن مع ابنتها الصغرى، المعلمة في مدرسة الحي، ترعى لها أطفالها أثناء عملها. تواظب على بلع حبات الضغط التي تشتريها لها ابنتها. أصيبت أم ياسين بهذا المرض منذ دعاها أخوها الأكبر لتناول الطعام في بيته وكان الغريب يومها الترحيب الحار الذي لاقته من زوجة أخيها على غير عادتها لتجد الكاتب بالعدل ينتظرها. طبعاً، وقعت على صك التنازل عن كرم الزيتون حصتها من تركة أبيها لأن الأرض عند أخيها مثل العرض لا يمكن التفريط بها.
ياسين، “شوفير البراد”، لا يزور أمه إلا في الأعياد ومن عادته أن يُرسل لها دجاجة في رمضان من باب صلة الرحم مع أحد أولاده. يعتقد أن أمه تميل كثيراً لأخيه الصغير الذي أصبح ضابطاً ويسكن في العاصمة، وهو الذي يعدها منذ سنين بأن يدفع لها تكاليف الحج في كل مرة يأتي لزيارتها بعد موسم عصر الزيتون ليأخذ حصته وحصتها من نتاج الموسم رغم أنه يحصل على الكثير من الزيت كـ”هدايا” من الأفراد الذين يخدمون في قطعته العسكرية.
كثيراً ما تقلق أم ياسين على ابنتها الكبرى التي ورغم بلوغها الستين ما يزال زوجها العصبي اللئيم يهددها بالطلاق بين الوقت والآخر. خالد ومحمد يعملان في الخارج منذ سنين وهما على خلاف كبير ودائم مع بقية الأخوة إلا أنهما متحابان وعلاقتهما “سمن على عسل” لأنهما متزوجين من أختين متحالفتين. نادراً ما يأتي الأخوان لزيارة أمهما لكنها تفرح كثيراً كل سنة بالهدية التي يتقاسمان ثمنها والتي عادة ما تكون “ثوب مخمل” أو لحاف “جلد النمر”، الأمر الذي تعلق عليه زوجة ياسين التي لا يعجبها العجب قائلة: “بالسنة مرة، والمباريم بإيدين نسوانهم للإبط”. زوجة إبنها المحامي أحن عليها منه فهي بنت أختها، تتذكرها بين الحين والآخر بصحن خبيزة ولكن الـ “أفوكاتو” يقطع يده ويشحد عليها كل ما طلبت منه أن يدفع لها ثمن طقم الأسنان.
مسكينة “كاترين”، ليس لها في هذه الدنيا إلا البنت “القاروطة”، أما أم ياسين، فـ “عد رجالك وِرْد المي”.
أيمن الأسود
أقسام
مقالات