حتى ننجز ثورة كاملة

لا شك أن شهر آذار من عام 2011 كان مفترقاً مفصلياً دخلت من خلاله البلاد إلى مرحلة جديدة من تاريخها إلى غير رجعة، انتفاضة جماهيرية عارمة ضربت عمق المجتمع...
مقاتل من الجيش السوري الحر - حلب 2015
لا شك أن شهر آذار من عام 2011 كان مفترقاً مفصلياً دخلت من خلاله البلاد إلى مرحلة جديدة من تاريخها إلى غير رجعة، انتفاضة جماهيرية عارمة ضربت عمق المجتمع السوري بكل شرائحه وعلى امتداد المحافظات السورية أفقياً وشاقولياً مطالبة بإسقاط نظام حكم آل الأسد رافعة شعارات “حرية”، “الله سوريا حرية وبس”، “الشعب السوري واحد”، لتعبر من خلال تلك الشعارات عن أهم أسباب ودوافع وأهداف حراكها؛ لكن النحو الذي نحت فيه الأوضاع في سوريا والمسارات الغريبة كلياً لقوى الحراك فيها عن الشعارات المطروحة في بدايات انتفاضة شعبها، تدفعنا لأن نعيد النظر قليلاً في بواعث تلك الشعارات ونتائجها.

محمد قنطار عضو الأمانة العامة لتيار الغد السوري

لم تقم ثورة عبرة التاريخ إلا وكانت النخبة هي المحرك والباعث لها، والناظم الأساسي لحركة الشارع فيها، والحامل الأبرز لشعاراتها، وهي من تتحمل أيضاً عبء ترجمة تلك الشعارات وفلسفتها لتعبر عن حلم شعبي تتبناه الجماهير وتؤمن به وتناضل للوصول إليه هو تحديداً كما ترجمته النخبة دون أن تتحول لتبني شعارات مغايرة تماماً لا بل مناهضة لشعارات حراكها الذي انطلقت به.
لكن هذا ما لم يحصل في الثورة السورية مطلقاً لا في بدايات الحراك ولا أثناءه حتى الآن على الأقل، وبالتأكيد كان ذلك سبباً مهماً يضاف إلى جملة من الأسباب الكثيرة الأخرى التي دفعت للأمور بهذا الاتجاه.
ولا شك أن بواعث اندلاع أي انتفاضة أو ثورة شعبية تنبع من قمع شامل تعرضت له تلك الشعوب، أو الكبت على مستوى الحريات أو لأسباب اقتصادية بحتة تعود لتردي الأوضاع المعيشية للمواطنين وسوء إدارة موارد الدولة، أو لأسباب دينية واجتماعية أخرى.
كل تلك الأسباب التي يكفي أن يوجد واحد منها لتندلع على أساسه ثورة كانت متوفرة في سوريا، ودافعة للشعب السوري لأن يثور على تردي أوضاعه المعيشية والأمنية والاجتماعية، وإذلاله المستمر والمتعمد من قبل السلطة السياسية وكبت الحريات الثقافية والدينية والاجتماعية التي كانت تتعرض لها كل مكوناته الاثنية والعرقية المتنوعة.
لكن ما آلت إليه الأمور خلال طيلة سنوات الثورة في سوريا لا يوحي بأن السوريين قد انتفضوا بوجه الاستبداد بمفهومه المجرد والذي يعني أي شكل من أشكال القمع والتسلط وكبت الحريات وتكميم الأفواه والتفرد بالحكم، أو الظلم بصفة عامة، وإنما كان الحراك يستهدف نوعاً محدداً من الاستبداد ألا وهو استبداد النظام بشكل حصري، فالرفض القاطع للنظام في مكان ما من سوريا مع قبول نمط آخر من الاستبداد قد يكون أكثر بشاعة لا يدل مطلقاً على رفض الاستبداد كحالة لا إنسانية عامة، لا بل إن رفض ممارسات النظام في مكان ما وسلوك ممارسات عسكرية أو سياسية أو غيرها أكثر قبحاً لا يشي مطلقاً بأن فضاءً من الحرية سيفتح أبوابه قريباً للسوريين.
إن شعار إسقاط النظام على سبيل المثال كان ولا زال بذاته غاية المنتفضين ضده كحال عموم السوريين أو المنقلبين عليه كحال بعض الشخصيات البارزة المنشقة “الوزراء والمسؤولين” أو كحال بعض الأحزاب والتيارات “كحزب العمال الكردستاني في سوريا”، لكن بالتأكيد لم تكن الغالبية الساحقة من هؤلاء المطالبين حتى الآن بإسقاطه ينشدون التحرر والديمقراطية بالوقت ذاته.
هذه الازدواجية هي بشكل رئيسي من جعلت البلاد تدخل في دائرة صراع غير منته غايته السلطة والحكم لا لأي شيء آخر، بغض النظر عن الشعارات المعلنة التي يختبئ كل طرف من أطراف الصراع المحلية في سوريا خلفها.
هي ذات الازدواجية التي جعلت من شعوب عربية أخرى تحقق شعاراتها في إسقاط النظام بشكله الحالي دون أن تبلغ الحرية، لأن مشكلتها بالأساس لم تكن مع “مفهوم الاستبداد” وإنما مع نظام حاكم بذاته، دون أن يكون لديها مشكلة –على المدى القريب على الأقل- مع أي نظام حكم آخر، أو بالأحرى دون أن يكون لديها مشكلة مع أي أشخاص آخرين على رأس نظام الحكم الجديد الذي قد يكون أشد استبداداً وأكثر إذلالاً لهم.
المرعب بالأمر أننا بالوقت الذي نلمس فيه صدق تلك الرغبة الشعبية العارمة في الإطاحة بالنظم السياسية الحاكمة في منطقتنا والاتجاه بالبلاد نحو الأفضل، فإننا نلمس وبنفس القدر خوفاً شعبياً عميقاً من الحرية بمفهومها المجرد والواسع، وكأن المزاج الشعبي العام يقول: “نعم لم نعد نريد أن تحكمنا هذه النظم السياسية وأن تستمر في نهب مواردنا وإذلالنا، ونعم لا بأس بـ”قليل” من الحرية، ولكننا نرفض أي شكل من أشكال الحرية يمكن أن يمس بمعتقداتنا وموروثاتنا الدينية أو القومية أو الاجتماعية”.
هذا الرعب العميق نلمس أكثر ما يمكن لدى الغالبية الساحقة من الجاليات والمهاجرين المقيمين في أوروبا من أبناء منطقتنا، والذين استطاعوا أن يجدوا لأنفسهم نمطاً من التقوقع يحول دون أن يتشربوا هم أو أبناؤهم أو أحفادهم من الجيل الرابع نمط الحرية الغربية التي لا تقيم لمفهوم “الحرام” أو “العيب” أو “المخالف للعادات والتقاليد” أي وزن على الإطلاق، والتي تترك للفرد حرية اختيار كل شيء على الإطلاق حتى اسمه أو اسم عائلته أو حتى تغيير جنسه بالمرة.
من هنا فإن النجاح لن يكتب لأي من الثورات في منطقتنا والثورة السورية واحدة منها، ولن تنجز شعوبنا وفي مقدمتها الشعب السوري ثورة كاملة، ما لم يتم تبني رفض الاستبداد جملة واحدة بأي شكل أو صيغة كان أو من أي طرف أو جهة، وتبني الحرية بمفهومها الواسع والمجرد جملة واحدة دون أي قيود دينية أو اجتماعية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال المطالبة بنصف استبداد ونصف حرية كما يحصل الآن في عموم بلداننا وفي الثورة السورية على وجه التحديد.
محمد قنطار عضو الأمانة العامة لتيار الغد السوري
أقسام
مقالات

أخبار متعلقة

  • مخاض عسير

    ما تشهده الثورة السورية من مخاض عسير وخاصة الاختلاف الداخلي الذي يصل أحيانا إلى مرحلة الاقتتال، يؤكد أننا لم نستطع الانتقال بالثورة إلى مرحلة الأمان بعد مرور قرابة عشر...
  • لماذا سيستمر تيار الغد السوري؟

    يراهن البعض على انتهاء دور المعارضة السورية وعن فرط عقدها، ويرددون أنها ستزول في ظل هذه الفوضى. ومن هنا سيكون نقاشنا ولن نتحدث طويلا عما قدمه تيار الغد السوري...
  • مستقبلنا في سوريا حرة وموحدة

    لا يعني نقص أعداد المهاجرين إلى أوروبا أن الأمور بخير في المنطقة. تكون الأمور بخير بالنسبة للاتحاد الأوروبي والعالم باستقرار الشرق الاوسط واستقرار سوريا وإعادة إنتاج الحل السياسي. إن...
  • مسؤوليتنا بعد أوهام النظام اقتصاديا

    تفاجئنا الأحداث دائماً بالمزيد من الألم والحسرة، وفي ذات الوقت الذي تنهمر فيه الصواريخ على إدلب ضمن هجمة لئيمة من قبل النظام، وما تخلفه هذه الحملة من قتل وتهجير...