مؤسسات صناعة الرأي العام في منطقتنا والاستبداد

نكاد لا نستطيع أن نفهم مستوى الانحطاط والسخافة والتبعية العمياء التي تمارسها مؤسسات صناعة الرأي العام أو توجيه الرأي العام في دعم وتكريس سلطات الاستبداد، وذلك في منطقتنا العربية...
مؤسسات صناعة الرأي العام
نكاد لا نستطيع أن نفهم مستوى الانحطاط والسخافة والتبعية العمياء التي تمارسها مؤسسات صناعة الرأي العام أو توجيه الرأي العام في دعم وتكريس سلطات الاستبداد، وذلك في منطقتنا العربية على وجه الخصوص والعالم الإسلامي عموماً.
بالحقيقة، الأمر راجع لعراقة هذه المؤسسات وخبرتها الكبيرة التي تمتد لأكثر من ألف وأربعمئة عام منذ بداية العهد الأموي وحتى اليوم، واحترافيتها العالية في لعب هذه الدور.

محمد قنطار عضو الأمانة العامة لتيار الغد السوري

فطيلة فترة حكم الدولة الإسلامية التي تعاقب على حكمها عدد من العائلات والجماعات، لم يكد يتم تنصيب الخليفة أو الحاكم حتى تقوم مؤسسات صناعة وتوجيه الرأي العام آنذاك “المنابر والمساجد ودور العبادة” بتمجيده وتعظيمه، والحديث اللامتناهي عن مناقبه وفضائله، وكيف أن الله قد أنعم على رعايا هذه الدولة بأن أصبح هذا الرجل قائدهم وخليفتهم، علماً أن أغلب الخلفاء عبر تاريخ الدولة الإسلامية جاؤوا إلى الحكم بانقلابات دموية على الخليفة الحاكم، والذي هو بطبيعة الحال في أغلب الأحيان أحد أفراد أسرتهم، رغم ذلك كانت تقوم هذه المؤسسات فوراً بتأليه الخليفة الجديد، لا بل إن الدعاء للخليفة أو للحاكم على منابر المساجد هو أمر واجب، وأكثر من ذلك اعتبار الخروج عن الحاكم أصبح كفراً بواحاً بنص ديني كرسته فتاوى علماء الدين وفقهاء السلطة حتى يومنا هذا.
كما لعبت هذه المؤسسات عبر تاريخها دوراً حاسماً في محاربة أي فكر أو توجه أو اعتقاد غير ذلك الذي ترغب السلطة السياسية في تكريسه، حيث تم تكفير أي مذهب ديني جديد أو أي نظرية فلسفية أو دعوى تحررية أو حتى أي نظرية أو حقيقة علمية مثبتة يمكنها أن تؤثر بطريقة ما على نظام الحكم.
تطورت مؤسسات صناعة الرأي العام في عصرنا الحالي لتشمل وسائل الإعلام والتواصل والمؤسسات الاقتصادية الكبرى ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، ورغم ذلك بقيت المنابر الدينية في منطقتنا العربية والإسلامية على وجه التحديد هي الأكبر والأشد تأثيراً بما لا يقارن من باقي المؤسسات، وبقيت كلمتها هي الفصل في توجيه الرأي العام. ذلك أن المؤسسات الإعلامية المختلفة والمنابر الثقافية والفكرية والمؤسسات الحزبية وغيرها من المؤسسات التي تلعب دوراً مهماً في صناعة الرأي العام، هي مؤسسات منتفعة أو مرتزقة من السلطة السياسية، وبالتالي هي دوماً ستطبل لأي ديكتاتورية قادمة لأنها مجرد كيانات قائمة على الانتفاع من الاستبداد في منطقتنا، أما الإسلام السياسي والمنابر الدينية بصفة عامة بما فيها الكنيسة الشرقية فهي جزء عضوي لا يتجزأ من تلك السلطة السياسية، ولا يمكن الحديث عن سلطة سياسية في عالمنا الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه بدون أن نرى بوضوح حجم ووزن المؤسسة الدينية فيه كجزء أصيل من تلك السلطة السياسية غير منفصل عنها.
فالمؤسسة الدينية في منطقتنا وعبر تاريخها عملت بإخلاص على تكريس السلطة السياسية الحاكمة أياً تكن تلك السلطة وأياً تكن شعاراتها، كما عملت الأخيرة بالمقابل على ترسيخ السلطة الدينية وابتداع نصوص دينية أصبحت أصولاً في العقيدة لدى أفراد شعوب منطقتنا تم تكريس الدين من خلالها لغايتين رئيسيتين لا ثالث لهما:
الأولى هي تغييب العقل المسلم عموماً عن قضاياه المعيشية وعن همومه وهموم مجتمع العامة، والقبول الدائم بالاستبداد والقهر والإذلال الذي يتعرض له يومياً على يد السلطة الحاكمة، لا بل وتحريم مجرد التفكير بالخروج عن السلطة الحاكمة باعتبار أن ذلك كفراً ومخالفة لأوامر الله.
أما الغاية الثانية فهي تعبئة وتجييش الشارع، وذلك فقط عندما تتعرض السلطة السياسية الحاكمة للخطر أو عندما تريد السلطة السياسية تعبئة الشارع، وقد لمسنا ذلك في أغلب الثورات التي قامت مؤخراً في منطقتنا، أو من خلال تعبئة الشارع المستمرة بغرض النزول لإجراء تلك الانتخابات الوهمية في الجمهوريات الناشئة أو لتأييد أي قرارات تتخذها السلطة.
من هنا لا يمكننا بأي شكل من الأشكال إجراء مقاربة بين سيطرة الكنيسة في أوروبا سابقاً وسيطرة المؤسسة الدينية في بلادنا حالياً، ذلك أن حالة تنافس شديدة ومستمرة كانت سائدة بين السلطة السياسية الحاكمة في أوروبا وبين الكنيسة في محاولات لكل منهما للهيمنة بشكل كامل على الآخر، مبنية على أساس التمايز بينهما،  لكن في عالمنا الإسلامي عموماً فالمؤسسة الدينية والسلطة السياسية في حالة تماهي كامل، ولا يمكن لأحداهما أن تستمر دون أن تعطي كامل الشرعية للأخرى.
فعلى سبيل المثال؛ من صفات رئيس أي دولة في عالمنا الإسلامي أنه “الرئيس المؤمن” إن لم يكن المجاهد أو غير ذلك من الصفات التي تصبغها المؤسسة الدينية على الحاكم لتعزيز سلطته، والذي لا بد له أن يحضر كل المناسبات الدينية محاطاً بعدد كبير من العمامات، وفي هالة بصرية لا تدع مجالاً للشك لدى أي مواطن بأنه “القائد الملهم المؤمن الذي سخره الله لنا لدوام أمننا وسعادتنا”.
محمد قنطار
أقسام
مقالات

أخبار متعلقة

  • مخاض عسير

    ما تشهده الثورة السورية من مخاض عسير وخاصة الاختلاف الداخلي الذي يصل أحيانا إلى مرحلة الاقتتال، يؤكد أننا لم نستطع الانتقال بالثورة إلى مرحلة الأمان بعد مرور قرابة عشر...
  • لماذا سيستمر تيار الغد السوري؟

    يراهن البعض على انتهاء دور المعارضة السورية وعن فرط عقدها، ويرددون أنها ستزول في ظل هذه الفوضى. ومن هنا سيكون نقاشنا ولن نتحدث طويلا عما قدمه تيار الغد السوري...
  • مستقبلنا في سوريا حرة وموحدة

    لا يعني نقص أعداد المهاجرين إلى أوروبا أن الأمور بخير في المنطقة. تكون الأمور بخير بالنسبة للاتحاد الأوروبي والعالم باستقرار الشرق الاوسط واستقرار سوريا وإعادة إنتاج الحل السياسي. إن...
  • مسؤوليتنا بعد أوهام النظام اقتصاديا

    تفاجئنا الأحداث دائماً بالمزيد من الألم والحسرة، وفي ذات الوقت الذي تنهمر فيه الصواريخ على إدلب ضمن هجمة لئيمة من قبل النظام، وما تخلفه هذه الحملة من قتل وتهجير...