كنا عايشين!!..

كثيرا ما تردد إلى مسامعي خلال الأعوام السبعة الماضية عبارة “كنا عايشين”، خاصة مع تفاقم المأساة الإنسانية في سوريا وحجم الدمار الناجمِ عن الحرب التي شنَّها نظام بشار الأسد...
إفراج عن بعض المعتقلين والسجناء في سجن دمشق المركزي "عدرا"
كثيرا ما تردد إلى مسامعي خلال الأعوام السبعة الماضية عبارة “كنا عايشين”، خاصة مع تفاقم المأساة الإنسانية في سوريا وحجم الدمار الناجمِ عن الحرب التي شنَّها نظام بشار الأسد “يلي كان معيشنا” ضد إرادة الشعب وثورته.
حقيقة، لا أدري من أين أتى مرددوا هذه العبارة بقناعتهم تلك، ولا أدري على أي مفاهيمٍ ارتكزوا في ترسيخِها، فالمرء منا لا يحتاج أكثر من نظرةٍ سريعةٍ على واقع سوريا ومؤشراتِ وإحصائياتِ العام 2010 أي قبل الثورة بعام واحد، ليدرك أي حياة كُنا نعيشُها مع هذا النظام.
لا أدري أي حياة تلك وإحصائيات ما قبل الثورة تشير إلى أن حجم البطالة المعلن في سوريا وصل إلى 8 في المئة، علماً أن حجم البطالة المقنعة يتجاوز هذا المعدل بكثير ليصل إلى ما يقارب الـ 30 في المئة بحسب إحصائيات غير رسمية، فيما التضخم بلغ سبعة في المئة ونسبة الفقرِ تجاوزت حد الـ 28 في المئة في بلدٍ معروف بكثرة خيراته وثرواته، هذا قبل أن نتطرق إلى عمليةِ تقسيمِ الاقتصاد السوري إلى قطاعات يسيطر عليها مافيات مقربة من النظام يدريها رامي مخلوف، الذي يعتبر اليد الاقتصادية لبشار الأسد، والذي امتدت يداه إلى جيوب السوريين مواطنين ومستثمرين ورجال أعمال ليبني إمبراطوريةً مالية لا يمكن تصورها، طبعاً ناهيك عن واقع أن 70 في المئة من مساحة سوريا العمرانية بما فيها ما يسمى بالأحياء الراقية “كحي المالكي في دمشق مصلا” ليست سوى عشوائيات سكنية آخذة بالاتساع بفعل الفساد والرشوة المنظمتين من قبل رأس النظام وقيادته.
كيف يمكن لشخص أن يعتبر ما كان عليه السوريين قبل الثورة حياة، والشعب لا يعرف مصير 80 في المئة من مدخول النفط  التي لا تدخل إلى ميزانية الدولة، لا يعرف شيء اسمه ناتج محلي أو نصيب الفرد ولا حتى المساعدة الاجتماعية، في الوقت الذي رمى فيه النظام سوريا ومقدراتها وخيراتها في أحضان حلفائه الروس والإيرانيين لكسب دعمهم، والذي حول السوق السورية إلى سوق استهلاكية بعد أن كانت واحدة من أكبر المنتجين في الشرق الأوسط ما تسبب بإغلاق مئات المعامل والورشات المحلية بسبب غياب حماية المنتج المحلي وفتح السوق أمام بضائع حلفائه.
الأغرب في نظرية “كنا عايشين” أن متبنيها كثيراً ما يدعمون نظريتهم هذه بالمقارنة سعر صرف العملة السورية أمام الدولار قبل وبعد الثورة، والذي ارتفع من 48 ليرة للدولار الواحد، إلى 500 ليرة سورية بعد الثورة، وهنا لابد من تذكير هؤلاء بأن الدولار عام 1960 أي قبل اغتصاب البعث ونظام الأسد للسلطة كان يعادل ليرتين سوريتين، ما يدفع للمقارنة الفعلية بين الحياة التي كان يعيشها السوريين قبل وبعد الأسد، تلك الحياة التي كانت الثورة السورية تحاول استعادتها.
بعيداً عن الاقتصاد، لا أدري أي حياة يتأسف عليها هؤلاء “والرئيس” كان يمثل الراعي الأول للفساد الذي تفشى في كامل مفاصل الدولة ودوائرها، بما فيها القضائية والتعليمية والصحية، ناهيك عن الواقع المأساوي للجيش الذي مثل لعنة كانت تطارد الشبان السوريين الذين كان يفضل الكثير منهم الهجرة أو حتى الإصابة بمرض ما على تأدية الخدمة العسكرية التي كانت أقرب لتجربة عبودية وسخرة تتحطم خلالها أحلام الشاب وطموحاته وشخصيته، تلك الخدمة التي كانت أقرب إلى خدمة كل شيء من ضباطٍ وعوائِلهم وأصدقائِهم أكثر من كونها خدمة للوطن.
حقيقةً من الغريب جداً أن تجد من يتحسر على حياة كانت فيها أبسط حقوق الانسان من مسكن وملبس وعمل كريم عبارة عن أحلام لا يحققها إلا فاسد أو محسوب على النظام أو محظوظ يمتلك من الحظ ما يدخله الجنة دون صلاة أو صوم، أحلام عاش الكثير من السوريين وماتوا قبل أن يعرفوا الطريق إليها.
أدرك حجم الألم والمأساة التي يعيشها السوريون اليوم، ولكن أن تجد من يترحم على حياة عاشها في ظل حكم الأسد هو الطامة الكبرى، حياة سيطرة على مفاصلها أجهزة مخابرات لا تعرف عن الإنسانية أو الوطنية سوى الولاء للديكتاتور وارتكاب الجرائم والفظائع تحت شعار بالروح بالدم، حياة في ظل نظام لا يفهم سوى شعار “الأسد أو نحرق البلد”، حياة كان فيها آلاف الأطفال لا يجدون مقعد ولا مدرسة يتعلمون فيها، آلاف المرضى لا يجدون مشافي للعلاج، بينما كل معارض للنظام يجد مئات الزنازين التي تتفنن في أساليب تعذيبه وانتهاك بشريته وآدميته، بدءاً من سجن تدمر وصولا إلى سجن صيدنايا مرورا بسجن المزة وغيره من المعتقلات.
باختصار، وبعيداً عن كلام الإحصائيات، يكفي للفرد منا أن يتجول في الشارع الممتد بين وكالة سانا وساحة الروضة في قلب دمشق ليعرف أي حياة وأي تمايز طبقي يعيش السوريون، هذا الشارع الذي يبدأ بماسح الأحذية والباحث عن قوته بين القمامة بالقرب من وكالة الأنباء الرسمية، وينتهي حيث يعيش رجال الأعمال الذين تتزايد أموالهم وثرواتهم مع كل دورة عقرب من عقارب  الساعة.
نعم كان حجم الدمار في سوريا كبيراً جداً، ولكن دمار تم بأيدي من يترحم هؤلاء على أيام حكمه وحياة العبودية التي منحهم إياها، دمار لم يكن من شأنه إلا أن خرب المخرب، وكشف أن سوريا لم تكن سوى أنقاض تغطيها بعض الأبنية الملبسة بالرخام، دمار استغله الأسد لقتل من قتل وقمع ثورة شعبية حملت أبسط مطالب الناس بالحرية والعدالة الاجتماعية، مطالب بدولة مدنية يمكن للفرد أن يشعر فيها بالمواطنة وليس بأنه في سجن كبير يملأه جواسيس الأفرع الأمنية وخفافيش الظلام، في بلد تحولت إلى مزرعة عائلية بات فيها الشعب عبارة عن عبيد ومرابعين وكتبة تقارير.
خلاصة القول.. إن صدقنا جدلاً بأن الثورة قد دمرت شيئا فهي دمرت جدار الخوف الذي بنته الأذرع الأمنية لنظام حكم البلاد بالطائفية والنار، كما كشفت هشاشة النظام الأمنية وصلابتها، أما عبارة “كنا عايشين” ما هي إلا أسطورة نسجها الشبيحة وصدقها من لا يعرفون عن الحياة أبسط مفاهيمها معانيها.
في النهاية، ربما لا يتفق الكثيرين معي في هذه الرؤية، إلا أن ما نتفق عليه أنه يما لو سامحنا الأسد الابن بكل ما ذكر، تبقى الجريمة الأكبر التي لا تغتفر له ولحافظ الأسد من قبله هي تدمير البنية الاجتماعية لسوريا عبر الطائفية والعرقية، هذا الدمار الذي بات يهدد وحدة الأراضي السورية بفعل الأحقاد والفتن التي برع النظام وعناصره ببثها بين من كانوا يوماً شعباً واحداً لتحولهم إلى أقليات وطوائف متقاتلة متحاربة لخلق حالة تمكن النظام من الاستمرار في الحكم وترسيخ الحياة “يلي كنا عايشينها”.
حسام يوسف – تيار الغد السوري
أقسام
مقالات

أخبار متعلقة