واشنطن تنسحب وتسلم سوريا إلى موسكو

إنهاء واشنطن برنامج دعم الثوار السوريين، وهو البرنامج الذي استفاد منه 20 ألف مقاتل على الأقل، منهم مقاتلو مجموعات مثل “الفرقة 13” و“كتيبة حمزة” في الشمال الغربي والجنوب و“جيش...
مقاتلان من الجيش السوري الحر في داعل تموز 2017
إنهاء واشنطن برنامج دعم الثوار السوريين، وهو البرنامج الذي استفاد منه 20 ألف مقاتل على الأقل، منهم مقاتلو مجموعات مثل “الفرقة 13” و“كتيبة حمزة” في الشمال الغربي والجنوب و“جيش أسود الشرقية” في الجنوب الغربي، هو إقرار براغماتي بواقع عسكري قوامه محدودية قدرة الثوار على القتال والإطاحة بنظام الأسد، وقرار أمريكي بالتخلي عن سوريا لروسيا.
وأبرز نتائج هذا القرار هي خسارة واشنطن صدقيتها في أوساط أذرعتها في الشرق الأوسط. ورمى البرنامج في وقت أول إلى دعم الثوار في قتالهم نظام الأسد على جبهة الحرب الأهلية في الشمال (حلب وإدلب واللاذقية وحماة، والجبهة الوسطى في حمص والجبهة الجنوبية: دمشق والقنيطرة والسويداء ودرعا).
ولكن تطورات الحرب في السنوات الأخيرة، أي انفضاض الأردن وتركيا عن الحلف المعادي للأسد، زادت عزلة الثوار وقوضت أكثر فأكثر فاعليتهم. وعلى الجبهة الجنوبية، أخفقت مساعي الثوار إلى سيطرة على دمشق وعلى درعا والسويداء. والقتال على هذه الجبهة جمّد منذ بدء التدخل الروسي في أيلول/سبتمبر 2015، إثر اتفاق روسيا والأردن وحكومة الأسد على وقف إطلاق نار في محافظة درعا.
وأغلق الأردن الحدود في وجه تعزيزات الثوار وأمرهم بوقف المواجهات مع الجيش السوري. وهؤلاء اضطروا إلى الامتثال مخافة خسارة الرواتب والسلاح والحماية في وجه الإسلاميين. ورحّب وزير الخارجية الأمريكي السابق، جون كيري، بالتعاون الأردني الروسي، ولكنه لم يكن مخيراً. فالملك الأردني أراد الحؤول دون قصف الروس مناطق الثوار في محافظة درعا المجاورة للحدود الأردنية السورية قصفاً شاملاً. ومثل هذا القصف كان ليحمل اللاجئين على التدفق إلى الأردن. وخشيت عمان كذلك من مساهمة عموم الفوضى جنوب سوريا في تقوية شوكة المتطرفين، وإضعاف العاصمة الأردنية أمام هجمات الإرهابيين. فقصر الثوار أنشطتهم على قتال تنظيمي داعش والقاعدة “هيئة تحرير الشام”.
ومنذ آب/أغسطس 2016، تقاربت تركيا مع روسيا، ولم تعد ترمي إلى إطاحة نظام الأسد بل إلى الحؤول دون إحكام حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السيطرة على المنطقة الممتدة من عفرين في شمال غرب سوريا إلى نهر دجلة شمال شرق، ومساحة المنطقة هذه نحو 500 ميل على الحدود التركية السورية. ومقابل سماح الروس للأتراك بالتدخل في منطقة الباب في شمال شرق سوريا، والخطوة هذه تقطع اتصال المناطق التي يسيطر عليها الكرد، سحبت تركيا دعمها للثوار في شرق حلب في ختام 2016، فساهمت في هزيمتهم السريعة أمام الجيش السوري.
واليوم، تؤيد أنقرة مشاريع إيران وروسيا لوقف إطلاق النار في ما يسمى “عملية أستانة”. وتدعم تركيا مجموعات مثل حركة أحرار الشام، وتحضهم على مواجهة جبهة “هيئة تحرير الشام” في إدلب، وعدم قتال الأسد. فأنقرة بتّت أمرها، وترى أنها تحتاج إلى دولة مركزية سورية للحد من نفوذ حزب الاتحاد الديموقراطي على حدودها الجنوبية. والجبهة اليتيمة التي يتواجه فيها ثوار دعمتهم أمريكا مع الأسد هي في التنف في جنوب شرق سوريا. ويتوزع هؤلاء الثوار على مجموعات مثل “أسود الشرقية” و“جيش المغاوير الثورة”، وكان في مقدور هذه المجموعات تهديد دمشق ومنطقة القلمون الاستراتيجية في الجبال على مقربة من الحدود اللبنانية السورية. وفي ربيع العام الحالي، اقتنص الثوار الفرصة السانحة إثر انسحاب “داعش” من البادي السورية الجنوبية بين الأردن وتدمر، وسيطروا على مناطق واسعة بين التنف والقلمون. ولكن سرعان ما شن الجيش السوري ومليشيات عراقية وإيرانية شيعية حملة لتطويق المجموعات هذه في التنف، حيث هم في حماية قوات خاصة أمريكية. والمجموعات هذه لم تعد تهدد النظام.
وفي غياب دعم الأردن وتركيا، تكاد لا ترتجى فائدة من دعم الـ “سي آي إيه” ثواراً سوريين. وآخر عملية بارزة شنها هؤلاء على دمشق قبل 4 أعوام في صيف 2013. ومذّاك، تربعت مجموعات إسلامية، أفلحت في استمالة السكان ودعم دول عربية وتركيا، محل مجموعات المعتدلين، وصارت أشرس قوة في وجه النظام. وفي شمال سوريا، أطاحت “هيئة تحرير الشام” و“داعش” بالثوار ممن دعمتهم أمريكا. وفي الجنوب، لم يشارك المعتدلون في هجمات “هيئة تحرير الشام” الأخيرة للسيطرة على درعا. وفي جوار دمشق، تساقطت بؤر الثوار، ولم تصمد سوى الغوطة الشرقية، ويتوقع أن تسقط في الأشهر القادمة.
ولن يغير وقف برنامج دعم الثوار السوريين توازن القوى في سوريا، ولكنه يقوض معنويات الثورة ويسرع وتيرة تهافتها وتداعيها. وصار في مقدور الجيش السوري الانصراف إلى جبهات المواجهة مع مجموعات الثوار في غرب سوريا، وهم في الأغلب إسلاميون مثل “هيئة تحرير الشام” أو “جيش الإسلام”. ولا يقيم الجيش السوري وزناً لمناطق التهدئة و“خفض التصعيد” في درعا والغوطة الشرقية، فهو يقتنص الفرص السانحة ليتقدم، وينتهز إحباط الثوار بعد إعلان واشنطن وقف الدعم. فالثوار يشعرون بالضعف والخيانة. ويخلف إعلان وقف الدعم والتمويل أثراً مماثلاً لسقوط حلب في العام المنصرم. فسقوط حلب حمل مجموعات كثيرة في محيط دمشق إلى السعي إلى اتفاق مع نظام الأسد. وبعضهم رحِّل إلى إدلب، وبعض آخر استساغ عفو النظام والتحق بالقوى الأمنية. وشطر ضئيل من الثوار التحق بالمجموعات المتطرفة من أمثال “هيئة تحرير الشام”.
وأعلن دونالد ترامب، من طريق وقف دعم قتال الثوار ضد الأسد، أن واشنطن لا تسعى إلى تغيير النظام في سوريا. والإعلان جاء بعد لقاء ترامب نظيره الروسي فلاديمير بوتين في قمة الدول العشرين في هامبورغ. ورأى بعضهم أنه تنازل أمريكي أمام روسيا. ولكن هذا الحسبان في غير محله. فواشنطن اليوم تعتمد على روسيا في كبح النفوذ الإيراني في سوريا. وهي ترجح كفة انتشار قوات روسية في جنوب سوريا على كفة انتشار “حزب الله” و“الحرس الثوري الإيراني” في مناطق حدودية مع إسرائيل. وترى كل من واشنطن وتل أبيب أن انتشار القوات الروسية هو أهون الشرور، رغم أنه يقتضي تقديم تنازلات والنزول على مصالح روسيا. وعلى رغم أن دعم الثوار السوريين لم يعد يعتد به على المستوى الاستراتيجي، التخلي عنهم هو سابقة سيئة تُجمع مع سوابق سلبية مثل انسحاب أمريكا من العراق، وتنتصب قرينة على مقاربة واشنطن (السلبية) الحلفاء في الشرق الأوسط. وصار في وسع النظام السوري السيطرة على دير الزور في الشرق من دون أن يخشى هجمات في مناطق أخرى. ومع إجازة واشنطن استعادة دمشق دير الزور، تسلم الحدود العراقية السورية إلى الإيرانيين وتطلق يدهم في إنشاء الممر البري الذي لطالما تاقوا اليه بين طهران والمتوسط. والقوى السنّية المؤيدة لأمريكا أضعف من أن تحول دون مثل هذه النتيجة.
كما لا ترغب “قوات سوريا الديموقراطية” في قتال النظام ولا في الإمساك بأراض خارج المناطق الكردية. واليوم تدرك هذه القوات، وتركيا هي خصمها اللدود، أن دعم واشنطن ليس مستداماً وليس مضموناً. ويتساءل كثر من قادتها عما يلي سقوط الرقة والإطاحة بـ“داعش”. والأغلب أن يتبدد إذّاك الدعم الأمريكي مع انتفاء الحاجة إلى “قوات سوريا الديموقراطية” وتحول القوات هذه إلى مصدر خلاف فحسب مع تركيا، في وقت تحتاج واشنطن إلى تعاون أنقرة لضبط التوسع الإيراني في المنطقة. ومثل هذه الظروف قد يحمل “قوات سوريا الديموقراطية” على التقرب من روسيا وطلب حمايتها من تركيا.
والحق يقال، إن واشنطن ترجح كفة الأسد وحلفائه. والأشهر القادمة (إلى نهاية العام الحالي) مخصصة لاستعادة الجيش السوري شرق سوريا، في وقت إن 2018 هو على الأغلب عام تدمير مخلفات جيوب الثوار في الغرب، وفي مناطق التهدئة ووقف التصعيد. ولا خيار أمام “قوات سوريا الديموقراطية” غير تسليم الرقة للأسد مقابل إدارة ذاتية غير رسمية في كانتوناتها (أقاليمها). ويبدو أن بوتين هو المنتصر الأكبر في الحرب السورية. فهو بعث القوة الروسية في الخارج مقابل كلفة مالية وبشرية بخسة نسبياً، وارتقت بلاده لاعباً بارزاً في الشرق الأوسط. وتأمل أمريكا بأن يبرز شقاق في الحلف الروسي الإيراني في سوريا. ولكن قد يطول الأمر في انتظار وقوع هذا الشقاق.
وعلى خلاف إيران، لا ترغب روسيا في تعكير علاقاتها بإسرائيل. ولكن ثمة مصلحة تجمع بين طهران وموسكو. فبوتين يرغب في الاقتصاص ممن كان يحدد أسعار النفط ويدعم مالياً مجموعات إسلامية قيدت القوة الروسية في الشيشان، فيما تلتزم إيران الصبر بعد فوزها بهذه الجولة من فصول اللعبة الاستراتيجية الكبرى في الشرق الأوسط. والمنتصرون هم أصحاب استراتيجية متماسكة طويلة الأمد قادرون على استمالة تعاون وكلاء محليين وحلفاء محليين. وفي هذا الميزان، تنتكص أمريكا على عقبيها.
فابريس بالانش – فورين أفيرز
أقسام
من الانترنت

أخبار متعلقة