عن الحرمان في زمن الإجرام

قبل عقود من الآن، كانت علب “السردين” صفراء اللون سبباً في انقسام حاد بين أطفال الحي والآخرين الذين يحصلون عليها من “الأونروا”، بالرغم من أن أهاليهم في معظم  الأحيان...
طفل سوري يجلس أمام بيته المهدم نتيجة قصف قوات النظام
قبل عقود من الآن، كانت علب “السردين” صفراء اللون سبباً في انقسام حاد بين أطفال الحي والآخرين الذين يحصلون عليها من “الأونروا”، بالرغم من أن أهاليهم في معظم  الأحيان يبيعونها على الأرصفة ليشتروا بثمنها مواداً غذائية أساسية.
لم أنس ابن جارنا الذي كان يستفزني بما يسميها “لفة دبس البندورة”، إذ كان يطعمني لقمة واحدة فقط، لكنها كانت كافية لأهرع إلى البيت كي أجهز واحدة لنفسي، وسرعان ما أُصاب بخيبة أمل لأني لم أحصل على نفس المذاق. بحثت كثيراً في كبري عن السبب واكتشفت أن دبسهم جاء من العلب الإيطالية المحفوظة بالسكر، بينما دبسنا محفوظ بالملح بعد نشره في العراء لأيام ما يجعله كافياً لصنع القرحة بعد أيام قليلة من المواظبة على تناوله.
أما الموز فهو فاجعة جيل تلك الأيام، وقد ظهر ذلك جلياً حتى بعد السفر إلى الخارج، حيث تستطيع تمييز بني بلدك من خلال مراقبة من يشتري الموز بكميات كبيرة من باب الجوع القديم أو حالة انتقام من عدو لا ذنب له في هذه العداوة. لن أنسى حكاية أحد محاسبي  مؤسسة الخضار الذي سرق مبلغاً من المال وتبين لاحقاً أنه اشترى بمعظمه كميات كبيرة من الموز.
قصص الحرمان وصلت إلى تهريب جبنة البقرة الضاحكة والمناديل الورقية وحتى الخبز من البلد الجار الواقع تحت احتلال أشاوس هؤلاء المحرومين، والأنكى من ذلك درجت على ألسنتهم شتيمة بحق أبناء ذلك البلد تعبر عن مدى الحرمان الذي كانوا يرتعون فيه: “شبعانين مارس وسنيكرز ولاد الكلب”. وعندما يحدث تفتيش مفاجئ على ضباط ذاك الجيش أثناء مغادرتهم قطعهم العسكرية كانت المناظر مفجعة. فهذا أبو الثلاث نجوم عندما يفتح الـ “سمسونايت” تجد فيها ربطة خبز فوق ملابس داخلية متسخة، وفي حقيبة زميله نصف فروج مسلوق مع جوارب معفنة وكومة من حبات البندورة والبطاطا والباذنجان، وأحياناً نصف علبة حلويات انتزعها من أحد مرؤوسيه.
عناصر هذا الجيش نفسه عندما اقتحموا بيوت أبناء بلدهم قاموا بسرقة كل ما استطاعوا إليه سبيلا، حتى بقايا علب “المتة” و”طرقوعين” من زجاجة المشروبات الروحية. طبعا الشيء الوحيد الذي لم يقتربوا منه هو الكتب.
أخبرتنا القيادة لا فض فوها حينئذ أن بوارج الامبريالية العالمية والليبرالية المتوحشة ترابط قبالة شواطئنا لفرض حصار ظالم على الوطن الممانع وأن قصدهم ضرب وحدتنا الوطنية، لكننا كشعب خلف قيادتنا الحكيمة وقفنا لهم بالمرصاد وأفشلنا هذه المؤامرة الكونية الدنيئة لأن “الوطن عزيز والوطن غالي”.
الحرمان صناعة وفعل مقصود يتطلب بنية تحتية ودخلاً محدوداً وجهلاً مدروساً بعناية. الحرمان يُوَزّع على الناس حسب مقتضيات المصلحة، وبالنتيجة يصنع شعباً في عداوة مع نفسه، حيث الكل حاقد على الكل، والجميع في حرب مع الجميع، كي يبقى صانع الحرمان على عرشه، وقد يرمي جزرة هنا لكن العصي هنا وهناك.
قد يعد الحديث عن الحرمان في زمن الإجرام ترفاً ليس في وقته، لكن من ينظر إلى البشر كعبيد يفعل بهم الأفاعيل لا بد أنه قاتِلُهم متى كان وجودهم على قيد الحياة خطراً يهدد كيانه الغاصب.
أيمن الأسود
أقسام
مقالات

أخبار متعلقة