في معنى “العودة لحضن الوطن”

على وقع ما أطلق عليه النظام تسمية “المصالحات الوطنية” والتي فرضت بالحديد والنار والتجويع والحصار من قبل النظام وحلفائه بعد سنوات من الوحشية. ومع توسع نطاق تلك المصالحات بتنا...
الجيش العربي السوري يقتاد مواطنين في مدينة بانياس إلى المعتقلات بتهمة التظاهر
على وقع ما أطلق عليه النظام تسمية “المصالحات الوطنية” والتي فرضت بالحديد والنار والتجويع والحصار من قبل النظام وحلفائه بعد سنوات من الوحشية. ومع توسع نطاق تلك المصالحات بتنا نسمع عن العديد من الشخصيات المعارضة أو المحسوبة على المعارضة والثورة بأنها بدأت ترجع إلى “حضن الوطن” بعد اكتشاف بعضها أن المعارضة السياسية كلها باتت تعمل لأجندات خارجية وغير وطنية، وأن واجبها الوطني يحتم عليها العودة إلى حضن الوطن الذي تحاك ضده مؤامرة كونية لتبديده وإسقاطه وإخضاعه لإرادات إقليمية ودولية مختلفة وانتهاك سيادة قراره الوطني المستقل. والبعض الآخر من تلك الشخصيات العائدة لحضن الوطن عادت لدوافع إنسانية انطلاقاً من أن الأولوية لوقف هذه الحرب وأنه لا مجال لأي حديث آخر عن إجرام دولة أو حريات أو حقوق مواطنة أو فساد أو سلطة أمنية استخباراتية ومئات الآلاف من المعتقلين أو غير ذلك.

محمد قنطار عضو الأمانة العامة في تيار الغد السوري

هذه الدعوات للعودة إلى حضن الوطن كان دافعها الأساسي الثقل الروسي والإيراني غير المحدود لا من حيث الكم ولا النوع ولا الوحشية والهمجية التي ساندوا بها النظام، والتي قابلها تخاذل كل مجتمع “أصدقاء سوريا” الإقليميين والدوليين الذين أعلنوا منذ بدايات الثورة السورية مواقف حازمة ضد النظام السوري وإلى جانب الثورة السورية.
العودة لحضن الوطن كما يطلق عليها النظام وجمهوره، وكما نعلم جميعنا كسوريين، هي أن يسلم الشعب نفسه للعدالة –عدالة النظام– بعد أن أصبح مطروداً أو ملاحقاً في الشتات، ومتهماً بالإرهاب والعمالة والخيانة، أو محاصراً في قرى وبلدات ومدن تحت وطأة قصف لا يهدأ وانعدام لأي سبل للحياة.
هي دعوة لكل تلك الملايين من السوريين والسوريات المهجرين في مخيمات النزوح في دول الجوار والمهجرين إلى دول اللجوء والمشردين بين المدن والبلدات السورية ممن شملت مناطقهم “المصالحات الوطنية”، والمعتقلين من المارقين والمتعاملين مع الاستخبارات الأجنبية والمتآمرين على السيادة الوطنية والذين مارسوا كل أشكال الإرهاب بحق الدولة وبحق الوطن مستعينين بالقوى الأجنبية، لكي يعودوا إلى وطنيتهم وأن يكفوا عن التآمر على البلد وأهله، ولأن النظام -أي بشار الأسد- دائماً عفوه يسبق عقابه ومغفرته تسبق غضبه فإنه دائماً يبادر للخاطئين والمذنبين بأن يعرض عليهم العفو مقابل التوبة في ظل اقتداره على العقاب وإمساكه لسيف العقوبة دائماً، فيا مرحباً بالعائدين إلى الوطن.
هي دعوة للاعتراف الجماعي من قبل ملايين السوريين -من أهالي ضحايا النظام السوري- بذنبهم الذي اقترفوه بحق الدولة والوطن، ومراجعتهم الذاتية المليئة بالندم والحسرة لكل السنوات الماضية التي خرجوا خلالها من “حضن بشار الأسد” نتيجة التغرير بهم، أو ربما أطماعهم الشخصية السياسية والمادية على حساب الوطن والمواطن والدولة والسيادة الوطنية، لا بل على حساب أرواح ومعاناة الملايين من الضحايا “من أبنائهم” الذين قضوا نتيجة غي وجشع وعمالة هذا الشعب وإرهابه.
هي الاعتراف “عن قناعة” بفجاعة مطالب هذا الشعب بالحرية والكرامة والعدالة، ومدى كارثيتها على الوطن والمواطن والدولة فيما لو فكر أحدهم بالمطالبة بها يوماً ما في هذا البلد فيما بعد.
هي تعهد سيتم التوقيع عليه خطياً من قبل كل العائدين بأنه لن يفكر بالمطالبة بأي شيء له علاقة بالحرية أو الكرامة أو الحقوق، هو أو ذريته مرة أخرى، وسيتم حفظ النسخة الأصلية من ورقة التعهد أو “تسوية الوضع” للعودة لحضن الوطن في أرشيف الاستخبارات.
والأهم أن العودة لحضن الوطن من قبل هؤلاء الذين بدأت ضمائرهم مرغمة بالصحو، ليس مشروطاً فقط بتلك الندامة أو الحسرة على ما اقترفته أيديهم من غدر وخيانة للوطن، وشعور برغبة ذاتية عارمة للعودة إلى الرشد والهداية والطريق القويم، وإنما يتطلب ما هو أهم من ذلك، وهو موافقة قائد الوطن وأجهزة استخباراته، الأمناء على سيادة هذا الوطن وكرامة مواطنيه وحقوقهم.
كل تلك المعاني لمصطلح “العودة لحضن الوطن” أو التفاوض “تحت سقف الوطن” التي روجها النظام ويتمسك بها تم التأكيد عليها في الخطاب الأخير أمام وزارة الخارجية الذي ألقاه ذلك الحيوان –بشار الأسد، وهنا لا أقصد الشتيمة بوصفه على أنه حيوان بقدر ما أعنيها كتوصيف بالمعنى الحرفي-.
فكل المتظاهرين الذين خرجوا عام 2011 والذي بلغ عددهم حسب أعلى تقديرات لم يزد عن مئتي ألف، وفقاً لما قاله، قد قبضوا سلفاً ثمن نزولهم للشارع وإعلانهم جهراً خيانتهم للوطن، فهم ليسوا إلا خونة ومرتزقة وعملاء، وفي أحسن الأحوال مغرر بهم.
وإن السبب لعدم إحراز أي تقدم في المفاوضات منذ انطلاقتها منذ سنوات، على حسب قوله أيضاً، هو أنها كانت تتم إما مع عميل أو إرهابي. أما ما يطلق عليه بالمعارضة المعتدلة فهم أشباح لا وجود لهم ولم ير هذا الحيوان هو أو أجهزة استخباراته حتى الآن ومنذ سيطرة أبيه على الحكم أي معارض لنظام حكم عائلته، حتى مئات الآلاف من المعارضين الذين قضوا بسجون استخباراته هو ووالده، لم يكن يراهم ولم يشعر بوزنهم.
إذاً، ووفقاً لتعبيره، فإن الطرف الآخر في الصراع ضد “الدولة” أو “الوطن” هم الإرهابيون والعملاء والمتطرفون فقط، والذين لن يكون في سوريا المستقبل مكاناً لهم فيها، وبالتالي فلا نهاية لهذه الحرب التي دمرت فيها آلته العسكرية وحلفاؤه أي إمكانية للحياة في سوريا –لبشر طبيعيين– إلا بالعودة إلى “حضن الوطن”، وعدم محاولة تجاوز “سقف الوطن” الذي لا يعلو فوق بسطاره العسكري أبداً.
على ذلك فإن السوريين هم الشعب الوحيد الذي يفضل أن يواجه كل أشكال مرارة العيش وانعدام أدنى مقومات الحياة في مخيمات النزوح ومراكز الإيواء وبلاد المهجر، لا بل كان الآلاف منهم على استعداد دون تردد أن يتحولوا لطعام لأسماك المتوسط على أن يعودوا “لأحضان وطنهم”، رغم أن الدعوة لا تزال مفتوحة وعامة.
محمد قنطار عضو الأمانة العامة لتيار الغد السوري
أقسام
مقالات

أخبار متعلقة