19 سبتمبر، 2017 790 مشاهدات
منعت نفسي منذ أيام أن أكتب عن بيع الشابة “كاترين مزهر”.. كيف أكتب عن حادثة واحدة وهناك آلاف الموتى والمفقودين في بلاد تحولت لمقبرة جماعية كبيرة للأحياء قبل الأموات.
لكن ما أثارني في قضية كاترين هو بيعها، نعم بيع، بيع بمعنى الكلمة.
إياك أن تفكر بأنها بيعت كجارية مثلاً، أو بيعت لتكون خادمة، أو في تجارة رقيق أبيض، أو سبية في دولة التنظيم.
إياك أن تفكر بأنها بيعت معنوياً كتزويجها من رجل مسن ثري مثلاً، أو بيعت لقضاء احتياجات رجل بأي مسمىً كان، أو أنها بيعت لجهة مسلحة ما كرهينة أو مبادلة أو تحت أي ذريعة أخرى..
لقد بيعت الفتاة التي لم تبلغ الثامنة عشر ربيعاً بعد، بيعاً حقيقياً كأي سلعةٍ، وتمت المبازرة عليها كأي سلعة كذلك، بيعت لتجارة أعضاء وكان البازار مفرطاً بالوحشية “الكلية بكذا والكبد بكذا والقرنية بكذا” حتى استقرت البيعة على السعر الأخير وهو تسعة ملايين ليرة سورية أي سبعة عشر ألف دولار أمريكي أي بسعر سيارة حديثة رخيصة الثمن أيضاً.
أي أن من باعها كان مدركاً أنه يرسلها للتقطيع – بيع بالمفرق – بجريمة موصوفة مكتملة الأركان بلا أي رحمة.
المفاجأة الأكبر أن أحد المبازرين والمتفقين على الصفقة كان خال وخالة الفتاة، أخوا والداتها، نعم خالتها وخالها، أشقاء والدتها، وكانت الخالة إحدى المخططين لخطف الصبية وايصالها لمشتريتها “السيدة اللاذقانية” بكامل أعضائها أي البضاعة وبصحة جيدة، حارمة الصبية المقبلة على الزواج من حياتها عن سبق الحقد والتخطيط.
بصراحة لم تصدمني كثيراً أن تكون الخالة شريكاً في عملية الخطف وأنا التي خبرت جيداً عداواة الخالة لابنة أختها الأشد من عداوة الغرباء، والحسد الذي يصل حد الحقد، لكن ما ساءني أنها كانت تعلم تماماً بأنها توصلها لحتفها.
قد يكون من الممكن لي أن أستوعب الحكاية لو كان الخطف بهدف الابتزاز، أو بهدف المقايضة، أو المبادلة، لكن الخالة الحنونة كانت تعلم بأنها تبيع ابنه أختها للموت لا لشيء آخر.
لم أستطع وصف شعوري وأنا استمع لقصتها من إحدى المقربات من عائلتها، كانت تصف لي حالة الهلع التي أصابت أهلها بعد تغيبها عن المنزل ويقينهم بأنها خُطفت، كنت أشعر وأنا البعيدة أن دموع أمها تسقط في قلبي.
أصوات نحيب الأم، حسرة الأب المقهور، إحساس العائلة بالعجز أمام فاجعة لا يمكن تناسيها أو التعايش معها، سخط الأقارب، غضب المقربين، كلها مشاعر حطت في روحي وكأني عشتها معهم، قصة لا تمر عليك سوى في الأفلام الهوليودية نشاهدها اليوم على أرض بلادنا وبأبطال حقيقيين ضحايا ومجرمون من أبناء جلدتنا أشخاص عشنا بينهم ومعهم وقد نكون التقيناهم مراراً في شوارع بلادنا وقد نكون تقاسمنا معهم المكاتب والمسارح والحافلات والأسواق، وربما كان لنا مع أحدهم ذكريات، بتنا أقرب اليوم لكل الكوابيس وأصبحنا جزءاً منها.
قصة كاترين ليست الوحيدة ولن تكون الأخيرة بالتأكيد، ففي الحروب وعبث الموت، وغياب القانون، تتفسخ النفوس ليطفو القيح على سطح الحياة فيلطخ مساحات الود ويلوث كل النقاء فتنقلب الحياة الى متاهات وأحجيات يبيت من الصعب حلها أو حتى فهمها.
وكما كل الحكايات لابد من خاتمة، فخاتمة حكاية كاترين لم تكن كمل الحكايا، فلم تعد الصبية من مخبئها السري، ولم تشفق عليها من اشترتها لتعتقها في اليوم التالي، ولا أمير الحكايات الخارق الذي ينقذ الأميرات عادة ظهر لينقذ أميرة حكايتنا.
خاتمة هذه الحكاية كانت حكاية جديدة، إذ قام ذوو المختطفة بخطف المتورطين ببيع ابنتهم، واقتصوا منهم بأيديهم، ثم رموا جثثهم في نفس المكان الذي اقتيدت منه ضحيتهم.
هنا نصل إلى مهزلة ما وصلنا إليه فلا ثقة بدولة، ولا بقانون، ولا ثقة بقضاء ولا بعدالة، وقد لا نلوم المنتقمين فكيف سيثقون بدولتهم ومن خطف ابنتهم يعمل بأمن دولتهم؟.
فأي رجاء نرجوه بعد هذا بالمستقبل؟
وأي مستقبل نرجوه بعد كل هذا الخراب. الخراب الذي طال البشر قبل الحجر، الخراب الذي حولنا جميعاً إلى ضحايا ومشاريع قَتلة في ذات الوقت.
كيف وصلنا إلى هذا الدرك الذي لا أتوقع أن نبلغ أحض منه، كيف بلغت بنا الوحشية التي لم يبلغها بشر على وجه الأرض.
كيف نصبح سلعاً لبعضنا؟
كيف أصبحنا كلنا يسوع، وكلنا يهوذا؛ في ذات الوقت مع اختلاف مواقعنا؟.
كيف أصبحنا كلنا يسوع، وكلنا يهوذا؛ في ذات الوقت مع اختلاف مواقعنا؟.
مزن مرشد
أقسام
مقالات