إزاحة الأسد عن حكم سوريا.. تصريحات متناقضة ومواقف رمادية

تناوب مسؤولون غربيون وعرب على إطلاق تصريحات تتحدث عن القبول ببقاء بشار الأسد على رأس الحكم في سوريا خلال المرحلة الانتقالية، وكذلك القبول بترشحه لفترة رئاسية جديدة بعد انتهاء...
مظاهرة ضد الأسد في ويتهال - لندن 12 آذار 2016
تناوب مسؤولون غربيون وعرب على إطلاق تصريحات تتحدث عن القبول ببقاء بشار الأسد على رأس الحكم في سوريا خلال المرحلة الانتقالية، وكذلك القبول بترشحه لفترة رئاسية جديدة بعد انتهاء هذه المرحلة، ما فسره البعض على أنه تغير دولي و”واقعية سياسية” تحاول بعض الدول فرضها على المعارضة السورية، لخفض سقف مطالبها وتقديم تنازلات.
خلال الشهرين الأخيرين، سمع السوريون تصريحات متناقضة، حول تراجع بلدان، غربية خصوصا، عن شرط إزاحة الأسد عن السلطة كشرط مسبق للتسوية السياسية التي يمكن أن تنهي الحرب المستمرة منذ ست سنوات ونصف، وأحبطت هذه التصريحات بعض المناوئين للنظام، ولم يكترث بها البعض الآخر، معتبرين أنها تصريحات سياسية “تكتيكية” لا تحمل حرفية كلماتها، كان لا بد منها لتمرير قضايا مهمة أخرى تحتاج إلى بعض الليونة الموقتة.
أولا: فرنسا- تغيرات تكتيكية أم استراتيجية
في 21 حزيران/يونيو الماضي، بدأ سيل التصريحات المتناقضة، فقد صرح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأنه لا يرى بديلا شرعيا للأسد، وأن فرنسا لم تعد تعتبر رحيله شرطا مسبقا لتسوية النزاع في سوريا. وفي مقابلة مع ثماني صحف أوروبية، رأى ماكرون أن الأسد “عدو الشعب السوري لكنه ليس عدو فرنسا”، وأضاف أن أولوية باريس هي “التركيز الشامل على محاربة الإرهاب وضمان ألا تصبح سورية دولة فاشلة”.
تناقضت تصريحات الرئيس الفرنسي بصورة حادة مع موقف الإدارة الفرنسية السابقة؛ فعلى خلاف موقف سلفه، فرانسوا هولاند، الذي أيد بشدة شرط رحيل بشار الأسد عن الحكم كمخرج للأزمة السورية، وأكد على أنه لا يجب أن يكون جزءا من مستقبل سوريا، جاءت تصريحات ماكرون لتلغي هذا الشرط، ولتقترب كثيرا من موقف موسكو التي تؤمن بأنه لا يوجد بديل ملائم عن الأسد.
أنصار النظام السوري اعتبروا هذه التصريحات تحولا في السياسة الفرنسية وانتصارا للأسد، ووثيقة تعميد أوروبية لبقائه في السلطة أبدا، فيما حذرت المعارضة من أن هذا التغير دليل على نجاح الأسد في تخويف العالم من الإرهاب، الذي قال في وقت سابق إنه لن يأكل سوريا فحسب بل سيأكل العالم كله، وأرسل رسالة على الغرب بما معناه عليكم أن تختاروا إما أنا أو الإرهاب.
لكن، سرعان ما بدد وزير الخارجية الفرنسية، جان إيف لودريان، الريبة الكلية، وأظهر ملامح لتراجع باريس عن موقفها؛ ففي مطلع أيلول/سبتمبر، خلط أوراق بلاده السياسية تجاه سورية، وأدلى بتصريح صحفي يختلف كليا عن تصريح ماكرون، وقال إنه “لا يمكن أن يكون الحل”، أي الأسد، رافضا بقاءه في المرحلة الانتقالية، وقال “لا يمكن أن نبني السلام مع الأسد، لا يمكنه أن يكون الحل، الحل هو في التوصل مع مجمل الفاعلين إلى جدول زمني للانتقال السياسي يتيح وضع دستور جديد وانتخابات، وهذا الانتقال لا يمكن أن يتم مع بشار الأسد الذي قتل قسما من الشعب السوري”.
برزت ملامح خلاف بين موقف وزارة الخارجية وموقف الرئاسة الفرنسية ممثلة بماكرون، الذي شهدت سياسته انتقادات من الدبلوماسية الفرنسية، ووصفها بعضهم بـ “السطحية والخالية من العمق، ولا تدرس مصالح فرنسا جيدا، ولا تمتلك تقديرا دقيقا للأزمات”، لكن تصريحات لودريان التي رقعتها أتت في منزلة تنبيه له لفتح باب المراجعة.
لكن ماكرون، سارع إلى الإعلان عن تشكيل “مجموعة اتصال” جديدة حول سوريا، تهدف إلى تطبيق الانتقال السياسي وفق القرارات الدولية، على الرغم من أن تجارب مجموعات الاتصال السابقة لم تكن ناجحة، على أمل أن تكون وسيلة لإعادة النظر في موقفه من رحيل الأسد.
تحدث ماكرون وقتها بلغة دبلوماسية، غير محددة، وحمالة أوجه، يمكن ترجمتها بعكس معناها بانحراف صغير في التفسير، لترضي هذا الطرف موقتا ثم تعود لترضي الطرف الآخر، ليتفادى قائلها الضغوط التي تحيط به، خاصة أن هذه التصريحات أتت بعد فترة قصيرة من قمة جمعت ماكرون بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في فرساي بضواحي باريس، أعربت خلالها فرنسا عن رغبتها في تطوير مستوى العلاقات مع روسيا، وتخفيف حدة الخلافات معها، خاصة تجاه ما يجري في سوريا، على الرغم من أنها من النواة الصلبة لمجموعة “أصدقاء الشعب السوري” التي كانت تطالب برحيل الأسد عن السلطة.
خلال حملته الانتخابية، لم يكن هذا الموقف مطروحا لدى الرئيس ماكرون، لكن مواقفه تغيرت بعد قمة جمعته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في باريس أواخر أيار/مايو الماضي، وتبلورت رغبة فرنسية في تخفيف حدة الخلافات الروسية- الفرنسية، ويبدو أن مجمل الموقف الدولي وضرب الإرهاب في فرنسا غير مرة، دفع فرنسا لاتباع تكتيك مختلف من القضية السورية.
لكن ماكرون نفسه، عاد في 19 أيلول/سبتمبر ليقلب الطاولة على من اعتقد أن فرنسا تغير موقفها وتعمد الأسد، وقال خلال مؤتمر صحفي إثر إلقائه خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك إن “بشار الأسد مجرم، يجب أن يحاكم ويحاسب على جرائمه أمام القضاء الدولي. ولكني، من منطق براغماتي، لم أجعل من تنحيه شرطا مسبقا”، مشددا على أن هذا الأمر يعود إلى الشعب السوري “أن يختار بحرية قائده المقبل”.
أتت تصريحات ماكرون الثانية بعد أن دعا في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تشكيل مجموعة اتصال حول سوريا لإعطاء دفعة جديدة نحو التوجه إلى حل سلمي للنزاع في هذا البلد، معتبرا أن آلية المفاوضات التي تخوضها موسكو وطهران وأنقرة في أستانة، عاصمة كازاخستان، “لا تكفي”. وهذا التصريح، عدا عن أنه مباشر وواضح لجهة تنحي الأسد أو تنحيته، يوحي بأن العلاقة الفرنسية- الروسية لم تتطور بالمستوى أو بالسياق الذي ترغب فيه فرنسا، ما دفعها للعودة إلى موقفها الأساس المتشدد من النظام السوري.
هذا الأمر أكده أيضا وزير الخارجية الفرنسي في نيويورك، حين حذر من أن الوضع العسكري في سوريا يهدد بـ “بتقسيم البلاد إلى الأبد” وتشكيل منظمات جديدة من “التطرف”، تحل محل “تنظيم الدولة الإسلامية”، ما لم توحد الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي جهدها للسعي من أجل “حل سلمي”، وشدد الوزير على أن “الواقعية تحتم رحيل بشار الأسد عن السلطة” بعد أن “هرب ملايين السوريين من البلاد، بسبب الحرب”، وأكد على أن ذلك يجب أن يكون من خلال “رعاية الأمم المتحدة في مفاوضات جنيف”، ما يؤكد أن فرنسا تعتبر كل ما يجري في أستانة أمرا هامشيا لن يحل أي جانب من جوانب القضية السورية.
ثانيا: الولايات المتحدة – التقلب بين ضفتين
تزامنت تصريحات ماكرون الأولى (حزيران/يونيو)، مع تصريحات للسفير الأمريكي السابق في دمشق روبرت فورد، تحدث فيها عن خداع الإدارة الأمريكية للسوريين، وقال إن الأسد يقترب من إعلان نصره بعد أعوام من المذابح التي ارتكبها في سوريا.
أتبع فورد تلك التصريحات، بتصريحات أكثر خطورة أدلى بها لصحيفة (ذي ناشيونال) في 28 آب/أغسطس الماضي، قال فيها إن الأسد سيبقى في الحكم، وقد لا يتم يوما محاسبته بخصوص المجازر التي نفذها بحق الشعب السوري، وأن الحرب التي بدأت تخمد قد انتصر فيها، كما قال إن إيران ستبقى في سوريا، وأضاف “هذه وقائع علينا القبول بها ولا يمكن تغييرها”.
في هذا السياق، تقول وسائل إعلام أمريكية إن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تتحرك من منطلق التعايش مع فكرة بقاء الأسد من دون التصالح معه، وفقا لخطوط براغماتية وعسكرية تنال تأييد وزارة الدفاع الأمريكية، وتشير إلى أن المعادلة الأمريكية في سوريا انقلبت عما كانت عليه منذ ست سنوات، لتصبح التركيز على البعد الإقليمي للنزاع وعلى دور إيران وأمن إسرائيل وحصة الأكراد، أما مصير الأسد فلم يعد تفصيلا ضروريا، ويمكن التعايش معه إلى حين.
هذا الموقف أيضا يختلف جذريا عن موقف الولايات المتحدة منذ بداية الثورة السورية عام 2011، حيث طالبت طوال السنوات الماضية برحيل الأسد، وقالت إنه لا مكان له في حكم سوريا بعد قتله لمئات الألوف من شعبه وتهجيره للملايين.
لكن تصريحات أمريكية أخرى، عادت لتبقي الموقف الأمريكي، الرافض لبقاء الأسد، أكثر وضوحا وثباتا، نظريا على الأقل، فقد أعلنت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، نيكي هيلي، في 17 أيلول/سبتمبر أن أمريكا ستشارك في التسوية في سوريا ولن تسمح بأن تؤدي إيران دورا رئيسيا، وقالت في مؤتمر صحفي “ستكون أمريكا شريكا قويا في حل الوضع بسوريا، ونحن لن يهدأ لنا بال ما لم نر سوريا قوية، وهذا يعني أن الأسد لن يكون في مكانه”، وأضافت أن “إيران لن تتحكم هناك أو تلعب دورا رئيسيا في الوضع”.
سارع مسؤولون أمريكيون لتأكيد أن الأسد لن يحظى بثقة الإدارة الأمريكية، وأنه خاسر أخلاقيا، ولن يتراجع الأمريكيون عن الدعوة إلى محاكمته، لكن لا تسعى الإدارة لإطاحته بسرعة بسبب خطط وأولويات تتعلق بمحاربة تنظيم داعش وأشباهه، ودعم الأكراد، والحفاظ على أمن إسرائيل.
في السياق ذاته، قال ديفيد ساترفيلد القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى إن جميع الدول التي حضرت اجتماع نيويورك “اتفقت على وجوب وجود عملية سياسية، كي تكون هناك مشاركة دولية في إعادة بناء سوريا”، وأضاف المسؤول الأمريكي أن نظام الأسد وداعميه لا يمكنهم أن “يعلنوا النصر بناء فقط على خريطة المواقع على الأرض”، وتابع: “إن إعادة بناء سوريا تعتمد بصورة كبيرة على هذه العملية السياسية الموثوقة”، وأشار إلى أن هذه العملية السياسية يجب أن “تتركز على جنيف ودور الأمم المتحدة”، ما يعني أن واشنطن ما زالت على موقفها الذي لا يعير أي أهمية لاجتماعات أستانة وما نتج عنها خلال ست جولات، وليست معنية بكل اتفاقيات “وقف التصعيد” التي فرضتها روسيا على فصائل من المعارضة السورية المسلحة في أربع مناطق في سوريا، وأنها ما زالت ترى أن حل القضية السورية يبدأ بتطبيق بيان جنيف الأول لعام 2012 القاضي بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، ومع فكرة أن لا يكون للأسد أي دور أو صلاحية حتى لو بقي في منصب الرئيس وفق ما يريد الروس.
كذلك هاجم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام 130 من قادة ورؤساء الدول النظام الإيراني و”أنشطته المزعزعة لاستقرار المنطقة”، وقال إن “الحكومة الإيرانية حولت بلدا غنيا وذا تاريخ وثقافة عريقين إلى دولة مارقة مرهقة اقتصاديا وتصدر بصورة أساسية العنف وسفك الدماء والفوضى”؛ وفي ما يخص الملف السوري، دعا إلى التوصل إلى حل سياسي يحترم إرادة الشعب السوري، وأكد أن واشنطن لا تسعى إلى تصعيد الحرب في سوريا، واستنكر استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي، واصفا ذلك بأنه كان “صادما”، وقال “إن استخدام بشار الأسد السلاح الكيماوي ضد شعبه، حتى الأطفال، كان صادما”، واصفا الأسد بأنه “مجرم”، أي أن موقف الرئيس الأمريكي لم يكن حاسما بشأن وضع حد نهائي للنظام السوري ورأسه.
ومعلوم أنه قبل ست سنوات من الآن، طالب الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، الأسد بالتنحي من منصبه، من دون أن تكون لديه استراتيجية أو أدوات داخل سوريا لتحقيق هذا الهدف، ولم يسع طوال سنوات حكمه لتحقيقه، بل كان متراخيا إلى الحد الذي صار الجميع معه يتهم الولايات المتحدة بأنها سلبية وغير مكترثة بما يجري في سوريا من مجازر وجرائم حرب يرتكبها النظام السوري.
قد تكون كلفة مغادرة الأسد بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية أكبر من كلفة بقائه، فأي حديث عن تنحيه أو عزله أو إطاحته، سيعني إعادة تسليح المعارضة بصورة فعالة، ودخول سوريا في حرب ثانية أكثر ضراوة وعنفا، خاصة مع وجود روسيا وإيران وميليشياتها الطائفية في سوريا تحارب إلى جانب الأسد، وفي الغالب تحول سوريا إلى دولة فاشلة بالمفهوم الأمريكي. وربما بسبب هذه القناعات تفكر الإدارة الأمريكية بالتعايش مع الأسد من دون التصالح معه، ووفقا لشروط عسكرية يوافق عليها رغما عنه، على رأسها تفرغ قوات النظام لمحاربة تنظيم داعش، وضمان أمن إسرائيل، وتحييد إيران تدريجيا، وضمان حصة للأكراد كجائزة ترضية.
ثالثا: بريطانيا ودول عربية أيضا
في هذا السياق، وفي الموضوع نفسه، قال وزير الدفاع البريطاني، مايكل فالون، في 25 آب/أغسطس الماضي إن بلاده لا ترى دورا طويل الأمد للأسد في مستقبل سوريا، واعتبر أن مستقبل سوريا يجب أن يكون في يد السوريين أنفسهم، ولهذا تدعم بريطانيا مسار المفاوضات في جنيف، أي أنه قبل بفكرة بقاء الأسد ضمن شروط ضيقة جدا لا تسعف الأسد للاحتفاء بتلك التصريحات.
إلى ذلك، قال وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، “من مصلحة الشعب السوري أن يرحل الأسد.. لكن كنا نقول إنه يجب أن يذهب كشرط مسبق، الآن نقول إنه يجب أن يذهب لكن كجزء من عملية انتقال سياسي، وبإمكانه دائما المشاركة في انتخابات رئاسية ديمقراطية”، وهو ما يتوافق مع تصريحات فالون التي تمسك العصا من المنتصف أيضا.
لكن سرعان ما صدرت تصريحات أخرى مختلفة كليا عن رأس الدبلوماسية البريطانية. ففي 18 أيلول/سبتمبر، أكد الوزير جونسون أن بلاده “لن تدعم إعادة بناء سوريا، حتى يكون هناك انتقال سياسي بعيدا عن الأسد”، وأوضح أن الولايات المتحدة وفرنسا ودولا أخرى تشارك بريطانيا موقفها هذا، وأعلنت موقفها المناهض لـ “نظام بشار الأسد”.
ولفت جونسون إلى أن “السبيل الوحيد للمضي قدما هو تسيير العملية السياسية”، وأن على “الإيرانيين والروس ونظام الأسد أن يعرفوا أن العملية يجب أن تبنى، كما ينص القرار 2254، والذي يعني أن لا وجود للأسد في سوريا”.
وقبل ذلك، أبلغت السعودية المعارضة السورية أنه لا خيار أمامها إلا قبول الأسد في السلطة خلال المرحلة الانتقالية، وعليها أن تنحني للضغوط الروسية بهذا الشأن، ثم عادت لتؤكد أنها تؤيد المعارضة السورية وتدعو لتغيير النظام السياسي كمدخل لوقف الحرب.
ترافقت التصريحات السعودية هذه، مع تصريحات أخرى لمسؤولين في دول الجوار السوري، تصب بصورة أو بأخرى في المسار نفسه؛ حيث كشف وزير الدولة لشؤون الإعلام، الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية، محمد المومني، عن تطور في العلاقات مع النظام السوري، وحول العلاقة بين الأردن وسوريا، قال في حديث للتلفزيون الأردني في 25 آب/أغسطس الماضي إنها “بدأت تتخذ منحى إيجابيا”، موضحا أنه “سيكون هنالك استدامة في قادمات الأيام لهذا الزخم”.
فسر البعض هذه التصريحات بأن الأردن تمتلك معلومات واضحة تؤكد بقاء الأسد، وهو الأمر الذي دفع الناطق باسم الحكومة للإعلان عن التفاؤل بمنحى إيجابي للعلاقة بين البلدين، بل وتنامي هذا المنحى وزخمه خلال المستقبل القريب.
رابعا: بين شد وجذب
إذًا، يشهد السوريون تصريحات متناقضة، مرة مرضية للمعارضة وتصر على رحيل الأسد، وأخرى غير مرضية لها، بل ومحابية للنظام السوري، وتدعو للقبول ببقاء الأسد في السلطة، على المدى القريب أو البعيد. وهذه المواقف المتناقضة تأتي في الغالب على خلفية التماشي مع التفاهم الروسي – الأمريكي على تبريد الجبهات في سوريا، وعقد مصالحات محلية، وتقليص النفوذ الإيراني، وتخفيض سقف المعارضة، وإيجاد حل وسط حتى لو أزعج الأطراف، المحلية منها والإقليمية.
في الوقت نفسه، لا يمكن الحديث عن احتمال قناعة هذه الدول بأن الأسد هو الأفضل للبقاء، ذلك أن سياسييها يدركون أن أي رئيس قتل قسما من شعبه، ودمر البنى التحتية، وسهل للحركات الإرهابية العالمية التحرك والحياة، لا يمكن أن يكون مقبولا سواء من شعبه أو من المجتمع الدولي، بسبب انعدام الثقة بسياساته وتصرفاته، والجميع ليسوا مقتنعين ببقاء الأسد لأنهم يعرفون أن بقاءه هو استمرار للتطرف، وأن بقاءه من دون عدالة انتقالية لن يجلب لسوريا أي استقرار على المدى البعيد.
في الغالب، لن تمثل كل هذه التصريحات والخطابات، الغربية والعربية، منعطفا فيما يخص الموقف النهائي من المسألة السورية؛ فقبل خمس سنوات كان رحيل الأسد شرطا أساسيا للحل لدى معظم الأطراف، الدولية والإقليمية، وهو ما أفضى إلى بيان جنيف 1 في حزيران/يونيو 2012، الذي أكد ضرورة الوصول إلى حل سياسي عبر مرحلة انتقالية تقودها هيئة حاكمة تتمتع بكامل الصلاحيات التنفيذية. لكن سير الحوادث، والوقائع الميدانية المستجدة، دفعت تدريجيا هذه الدول، أو بعضها على الأقل، إلى تغيير مواقفها، وفقا لمصالحها وتغير تحالفاتها، وبناء على مستوى الخطر الذي أخذ يهددها، وخوفها من انتقال عنف النظام وعنف الجماعات التكفيرية إليها، فضلا عن صعوبات التحدي في الساحة السورية التي باتت ميدانا لتصفية حسابات إقليمية ودولية، ومركزا لاستعراض القوى، ومعبرا غير ذي أهمية لتحقيق أهداف خاصة بهذه الدول.
عندما صرح قادة عرب وغربيون بأن الأسد فقد شرعيته وعليه أن يرحل، لم يقوموا عمليا بما يحقق ذلك، ولم يضغطوا عليه بجدية لزجره عن استخدامه العنف الإجرامي المنفلت من كل عقال، كما لم يساعدوا المعارضة السورية لتقوم هي نفسها بذلك. واعتقدوا مخطئين أن النظام السوري يمكن أن يغير سلوكه، لذلك بقي الأسد في السلطة، وأنقذته لاحقا، حين أصبح وضعه مهددا، كل من روسيا وإيران. واتضح أنهم اكتفوا بتوظيف تصريحاتهم من أجل الضغط المعنوي فحسب، وأنها كانت، عمليا، مجرد تصريحات تكتيكية ليس أكثر. والأمر نفسه قد ينطبق، الآن، على هذه التصريحات الجديدة التي تتسرب من كل حدب وصوب.
ما زالت دول “النواة الصلبة” لأصدقاء سوريا على مواقفها؛ وجل ما تنازلت عنه، تحت ضغوط روسية، وعدم اكتراث أمريكي، هو القبول بفكرة بقاء الأسد حتى نهاية المرحلة الانتقالية، وأن يكون خلالها بلا صلاحيات أو بصلاحيات بروتوكولية، أي وافقت على بقائه شرط أن يكون بلا مخالب.
هذا الأمر يجد تحديا من روسيا، التي تصر على أن تحقيق السلام والاستقرار في سوريا يجب أن يتم بوجود الأسد وبإشرافه، وتساعده بكل الوسائل، السياسية والعسكرية والاقتصادية، على بلوغ هذا الهدف والاحتفاظ بالسلطة، يصاحبه غض طرف غربي عن ارتكابه جرائم حرب متتالية لا يبدو أن لها نهاية.
لذلك أعلنت دول أوروبية رئيسية (ألمانيا، فرنسا وبريطانيا) عن رفضها منح أي أموال أو مساعدات لإعادة بناء سوريا بعد توقف الحرب ما لم تجري تنحية الأسد، وهي ترى أن إعادة البناء بوجود الأسد ستكون عملية ترميم له ولنظامه وأجهزته الأمنية والعسكرية، وليست عملية ترميم للدولة المنكوبة، وهو أقصى ما تملكه أوروبا من سلاح تعوض به عجزها وعدم قدرتها على مواجهة الدولتين الكبريين، أمريكا وروسيا.
ويمكن القول إن النواة الصلبة لأوروبا، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، باتت ترى، بعد المتغيرات الحاصلة، أن الإصرار على مطلب إطاحة بشار الأسد أضحى سياسة عقيمة، خاصة مع وجود الإصرار الروسي، وعدم جلاء الموقف الأمريكي. وهي ترى، في الوقت نفسه، أن بقاءه إلى ما بعد المرحلة الانتقالية عملية عقيمة أيضا، وهذا الأمر ينطبق، بصورة أو بأخرى، على الولايات المتحدة الأمريكية التي يبدو أنها لا تريد للأسد الانتصار، ولا تريد له الهزيمة، في الوقت الراهن على الأقل، وهذا الأمر يدعو للاعتقاد بأن كل الجولات المقبلة لمؤتمر جنيف ستكون، هي بدورها، محكومة بهذا السقف.
خلفت الحرب السورية بين نصف مليون ومليون ضحية، ودفعت نحو نصف السكان للنزوح واللجوء، وتسببت بدمار هائل في البنى التحتية والمنشآت الاقتصادية الحيوية والإنتاجية، بما يقدر بمئات المليارات من الدولارات، ثم تعود دول غربية لتتراخى من جديد وتلمح بأن الأسد قد يبقى، وبشبه تنسيق فيما بينها، وتدعو إلى حل سياسي بوجوده، هو الذي يتحالف مع أشد خصومها، طهران وموسكو، وهذا يدفع للتساؤل حول مدى جدية هذه المواقف، سواء التي تطالب بتنحي الأسد أو التي تعلن الموافقة على وجوده الموقت.
وتبقى أولوية أولويات الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية محاربة تنظيم داعش والتنظيمات الأخرى المشابهة، التي يتوقع خبراء عسكريون أنها، بعد أن تجهز عليها ضربات قوات التحالف الدولي وضربات الروس، سوف تولد تنظيمات متطرفة لن تكون بالضرورة أقل عنفا من تلك الآيلة للاندثار، وهذا الأمر الفضفاض (مكافحة الإرهاب)، لن يوصل سوريا إلى أي حل، ولا إلى أي بر أمان، ذلك أن هناك دلائل قوية ومثبته تشير إلى علاقة إيران وميليشياتها والنظام السوري بهذه التنظيمات الإرهابية، التي سوف يعملون على تغذيتها ومدها بأسباب البقاء، ومن ثم، استثمارها، طالما أن هناك تهديدا للنظام السوري ولإيران. وقد يصل الأمر إلى التهديد بنشر الفوضى في المنطقة في حال تعرض النظام لخطر جدي أو تعرض المشروع الإيراني في المنطقة لخطر التهديد.
كل ما سبق يدفع الجميع لأن يكون براغماتيا، سواء على مستوى المعارضة السورية، أو على مستوى الدول العربية، أو على المستوى الأوروبي والأمريكي، لكن اللجوء إلى البراغماتية مع أنظمة تعتمد على استثمار الإرهاب وتهدد بنشر الفوضى قد يحمل من المخاطر ما يحمل.
خامسا: النظام والمعارضة
وسط كل هذه الموجات الضبابية وغير المستقرة من المواقف، والتحدي الدولي، والتفكك والاهتزاز الإقليمي، ما زال النظام السوري يصر على أنه المنتصر في هذه الحرب. فقد قال رأس النظام في 20 آب/أغسطس الماضي “لقد دفعنا ثمنا غاليا في سوريا في هذه الحرب، لكن تمكنا من إفشال المشروع الغربي”، ويبدو أن لديه ثقة بأن لعبة الإرهاب نجحت في ضمان وجوده على رأس السلطة، وأنه لن يكون هناك انتقال سياسي، أو مرحلة انتقالية، ولهذا لا تقلقه المفاوضات ويبدو أكثر استرخاء وراحة، على الرغم من أن بضعة تصريحات مترددة هنا وهناك لا يمكن أن تشكل مصدرا لهذه الثقة، أو تضمن مصيره، إلا إذا كانت لديه “تطمينات” أقوى بأن المنطقة لا تحتمل أي نظام وطني ديمقراطي حر تفرضه الثورات.
وفيما ظلت (الهيئة العليا للمفاوضات)، حتى الآن، متمسكة بموقفها القائم على ضرورة تنحي الأسد قبل المباشرة في أي انتقال سياسي، تصر (منصة موسكو) على أن رحيل الأسد يجب ألا يكون شرطا مسبقا للمفاوضات، ويخشى أن تستطيع روسيا خرق هذه الهيئة بمنصات تقلب الموازين وتخفض السقوف وتسهل الإقرار ببقاء الأسد على الرغم من كل ارتكاباته بحق شعبه وبحق سوريا.
ففي مسعاها لفرض رؤيتها، تعمل روسيا على دفع المعارضة السورية إلى حافة اليأس، والضغط عليها، وعلى الغرب عموما، لطي بيان جنيف1، واعتماد قرار الأمم المتحدة رقم 2254 حصرا، ما يعني أنها تريد فرض خطة طريق لا تشترط رحيل الأسد.
أما إيران، الداعم الدائم للنظام السوري، فإن موقفها يتماهى مع موقف موسكو، وهي مستمرة في دعمه بلا حدود عبر وكلائها من الميليشيات اللبنانية والعراقية وسواها، وعبر دعم عسكري وسياسي واستخباراتي، لكن قوتها الميدانية تظهر محدودة مقارنة بالقوة الروسية، ويصطدم طموحها ببعض الحواجز التي وضعها الروس، وبموقف أمريكي رافض لهيمنة تزيد من زعزعة استقرار المنطقة. لكن استسلام إيران لمبدأ تقليص دورها في سوريا مستبعد، خاصة أن هذا الدور مرتبط بخطة أوسع تشمل المنطقة بأسرها عملت عليها على مدار عقود، وهذا ما سيدفع إيران للبحث عن وسائل مختلفة لتعميق دورها في سوريا، خاصة أن نفوذها في النظام السوري والأجهزة الأمنية واسع وعميق، مع وجود شكوك في صدق رغبة روسيا في التخفيف من نفوذها والحد من دورها كحليف ما زالت تعتمد عليه.
سادسا: خاتمة
لم يعد هناك شك لدى شريحة واسعة من الدول الغربية بأن بقاء الأسد، كواقع سياسي وعسكري، لا يمكن أن يؤدي إلى سلام شامل ودائم ومستقر في سوريا، فهو لا يمكن أن يصبح حليفا أمريكيا بسبب التجارب الفاشلة التي واجهها الأمريكيون معه، وكذلك لا يمكن أن يكون حليفا أوروبيا بعد أن خذل أوروبا غير مرة، والأهم أنه لا يمكن أن يكون مقبولا من ملايين المتضررين من حربه، وربما أيضا لن يكون مقبولا كرئيس تقليدي من (الرماديين) أو (التيار الثالث) الذي شهد كيف دمر سوريا بحجة مكافحة الإرهاب، ودمر مدنا كاملة، ليقضي فحسب على عشرات المسلحين فيها، وكيف استخدم الكيماوي ضد الشعب وقتل المدنيين من دون مبرر، وحول سوريا إلى أرض مشاع للإيرانيين وللميليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والأفغانية التي استقطبتها طهران للدفاع عن مصالحها وعن النظام.
في ظل عدم وجود أفق لأي حل سياسي في الوقت الراهن، سواء عبر أستانة أو جنيف، ووجود تنافس دولي وتضارب مصالح، وتحالفات للمتناقضات، وتوافقات غير مكتملة، يبقى أمام المعارضة السورية والدول الحليفة لها أن تسعى لإقناع الأطراف الأقوى في المعادلة السورية، أي روسيا والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، بضرورة خروج بعض الأطراف من العملية كلها، لتبقى المعادلة أقل تشعبا، وتصبح المفاوضات حول مستقبل سوريا السياسي أكثر موضوعية، وخلق ظروف يمكن من خلالها إنضاج مشروع التغيير السياسي المقنع والقادر على وقف الحرب السورية نهائيا.
يمكن الجزم، أنه من دون تسوية سياسية شاملة، لا يمكن الحديث عن نهاية للحرب في سوريا، ومن دون تغيير سياسي واضح المعالم لا يمكن تحقيق الاستقرار، ومن دون “هيئة حاكمة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة”، وفق ما تنص عليه القرارات الدولية المتعاقبة التي صدرت حول القضية السورية، لا يمكن الحديث عن “تدجين” للمعارضة السورية ودفعها للقبول بالانخراط مع “أطراف من النظام” في “تسوية” لا تلبي الحد الأدنى من تطلعات السوريين.
أقسام
من الانترنت

أخبار متعلقة