8 أكتوبر، 2017 130 مشاهدات
لم يتخيل قط، حتى في كوابيسه، أنه سينام خارج بيته ولو ليلة واحدة، فهو شديد التعلق بما يألف، حتى لو كان جماداً، فما بالك بملعب الوجدان الأول، مرتع الغرارة والطيش، مسرح الخيبات والانكسارات والآمال الساذجة، ملتقى اللمات والملمات.
وبالرغم من أنه الآن بعيد عن عشه آلاف الأميال، ومع علمه اليقيني بموقعه في تلك البقعة الساخنة من العالم، إلا أنه في بحث دائم عنه، حيث يعيش الآن، لعله يعثر عليه صدفة أو بمعجزة ما.
في هذه البلاد، لا يحب التجول في الشوارع الواسعة المضاءة بشراسة، لأنها على اتساعها تخنق أرواح الغرباء، وتضعهم وجهاً لوجه أمام دواخلهم المتشظية، والسبب الأهم أنه على يقين أن بيتاً كبيته لن يقبع على جنباتها أو نواصيها، ولا حتى بالقرب منها.
سرعان ما وجد بصيص أمل في ضاحية بعيدة عن ضجيج مدينة النور، وتحديداً في زقاق ضيق يندر وجوده في هذه البلاد، يشبه زواريب الحارات التي ترعرع فيها إلا أنه أطول بكثير، يحلو له المشي فيه وهو يعزي نفسه برؤية النوافذ الصغيرة، والأبواب القديمة، والجدران المتجاورة وكأنها تشد من أزر بعضها بعضاً. كل شيء كان يشي بأن ثمة حياة تدب في كل ركن من الزقاق وأن بيوتاته كانت تنزف حكايا من رحلوا، مع أن أرواحهم ما زالت تعشعش في ثناياها.
يتسكع وحيداً، فهو يعرف أن الأزقة رحيمة بالأرواح المهدهدة، يترك نفسه لنفسه، يمشي على غير هدى، مطمئناً إلى أن المارة غير مكترثين لما يجول في رأسه، لأنهم هم أيضاً في مناجاة جوانية لن يسمحوا لحبلها أن ينقطع بالانشغال بما هو ليس من شأنها.
يكاد يرى أرواحاً كثيرة في الزقاق منسدلة على حبال الغسيل لتبدو كثياب طفل مبللة، أو تختبئ في قميص امرأة يتدلى على مشجب خشبي خلف نافذة، ثم تعود لتغير مواضعها بعد فترة لتستأنس أشياءً أخرى عزيزة وغالية.
كانت إحدى فتحات الزقاق تطل على مقبرة واسعة، لا تشبه مثيلاتها في بلاده، فهي أقرب ما تكون إلى حديقة مرتبة، مليئة بالورود مختلفة الألوان والأشكال والرائحة، لكن الرخام يحاصر ساكنيها، حابساً الأرواح بداخلها. كان بارداً ثقيلاً يضيق به صدره في كل مرة يدنو فيها من واحة الأموات تلك، ويقول لنفسه ما أجمله من مُقام لولا كل هذا الرخام.
هذا الصباح، كما كل صباح، استيقظ من نومه الذي يشبه الموت المؤقت، مشى إلى حيث باب غرفة النوم. ارتطم جسده بالحائط. الباب في جهة أخرى. أدرك أنه هنا وليس هناك، في بلادٍ ليست له ولا هو لها. تحسس أنفاسه فوجدها باردة كالصقيع، مد يده إلى صدره باحثاً عن نبضاته، فأدرك أنه نسي قلبه هناك بين القبور تحت الأضواء الخافتة على لوحٍ من الرخام البارد.
في حمأة البحث هذه، ومع أن هناك من الناس من يحمل روحه معه أينما ارتحل وحيثما حل، إلا أنه ليس من هذا البعض، فقد ترك روحه بين جنبات البيت العتيق لتطعم القطط التي تركها وحيدة، وتمسح الغبار عن نوافذ البيت الذي كان.
أيمن الأسود
أيمن الأسود
أقسام
مقالات