المكان رحب، ومُنتقى بعناية. كلٌ خلف بسطته في حالة الجاهزية القصوى بانتظار إشارة بدء البيع والشراء لهذا اليوم. من وصل باكراً يتسلى بترتيب وتزويق بضاعته. هناك من هو منشغل في صنع كوب من القهوة أو الشاي، إذ عليهم أن يكونوا في يقظة وحيطة، لأنهم في الأمس لم يوفقوا بالرغم من قناعة البعض أن بضاعتهم رائجة وحتى الذين لا يحظى ما لديهم من معروض على أي إقبال كانوا متفائلين منطلقين من إيمانهم بالمثل القائل “كل سوسة لها كيّال”.
كبار المكان ثلاثة أو أربعة يحتل كل واحد منهم زاوية على طاولة فارغة إلا من رزمة أوراق وعدد من الهواتف المحمولة لمواكبة المستجدات. يرن أحدها فتستنفر الجماعة التي تدور في فلك صاحب الهاتف دون أن يقترب منه أحد باستثناء الحويص الذي يتعين عليه أن يكون قريباً جداً وجاهزاً لتلقي الأوامر من كبيره وفي ما عدا ذلك تنحصر مهمته في مراقبة شحن الهواتف لأنها من أهم عدة الشغل.
في الزوايا الأخرى، انقسم الحضور بين مشنف للآذان ومتفرس في وجه هذا الذي رن هاتفه للتو علهم يحصلون على معلومة ذات شأن، فربما تختلف الأسعار في لحظة وتروج بضاعة وتكسد أخرى. ينتفض الحويص بعد نهاية المكالمة ويتموضع في ركن قَصي فيهرع وراءه جماعة كبيره لـ”شمشمة” الأخبار.
تبدأ المناداة على البضاعة ويرتفع الضجيج شيئاً فشيئاً، بعضهم ينتظر بشغف أن يرن هاتف الكبير الخاص به، فهم في حيرة حول أي بضاعة يقدمون وأيها يخفون. لا يزال حويصتهم يجلسون بجانب كبارهم لا يغادرونهم إلا لأداء خدمة يطلبوها منهم ويعودون سريعاً بانتظار الأحداث الجسام.
يتتالى رنين الهواتف المحمولة فيشتعل المكان، ويكثر الهرج والمرج، ويصبح السوق كالحمام مقطوع الماء. ترتفع الأصوات في المناداة على البضاعة. تكثر التجمعات الجانبية والمساومات الفرعية. هم الآن أشبه برهط من النَوَر الذين ينتظرون نضوج طبخة “الكرشة”.
العجوز المتصعلك يعزف لحناً خارج السرب، هو الكبير وهو الجماعة وهو الحويص في آن. يصيح على بضاعته على طريقته، وتبقى كاسدة، فلا من يسمع ولا من يشتري.
أما ذلك الحويص فهو بشهادة الجميع أشطرهم وكثيراً ما يتفوق على معلمه، يستطيع التحدث مع عشر أشخاص في نفس الوقت. رنة صوته تغتصب المسامع مع أنه بعد نهاية حديثه لا تفهم منه شيئاً، يشوش على الجميع، لا بل يُذبذب مؤشر البورصة حتى إشعار آخر.
في المشهد، شخص أسطواني الشكل أقرب ما يكون لبرميل، وكأن ارتفاع الضغط والكولسترول عنده دفعا بعينيه من مكانهما فظهر كأنه ضفدع ممتلئ جاحظ العينين. ميزته الوحيدة أنه يجيد الكذب مع كل شهيق.
وما أن يصل أحد الزوار إلى السوق حتى ترى الإرباك على وجوه القوم بقضهم وقضيضهم، يخرج لاستقباله شيوخ الكار، ولا أحد يعرف ما في جرابهم من عروض وأسعار، يستطيعون في لحظات أن يقلبوا الآية رأساً على عقب. عبثاً دأب أحد الحاضرين على نهيهم عن الترحيب المبالغ فيه بالزوار من مبدأ “كثر التهليل يقلل الهيبة” لكن لا حياة لمن تنادي. السمة العامة لهؤلاء الزوار هو أنهم جميعاً من ذوات الدم البارد، وأنهم من المشهود لهم بالدهاء والفعال الرقطاء. في كل زيارة يعلون شأن بضاعة ويبخسون أخرى، وهكذا دواليك.
انقضى البازار، الضيوف كثر، أرباح سريعة، خسائر أسرع، الكل ذهب مع الريح ولا يبقى غير الضجيج والتصريحات والتحليلات وانتظار تحديد موعد السوق القادم، وسقف أحلام غالبية أصحاب الدكاكين هو المشاركة في الموسم القادم على أمل أن يكون “السوق نار والشَّرّا حمار”.
أيمن الأسود
سوق مخيم الزعتري
25 أكتوبر، 2017 301 مشاهدات
أقسام
مقالات