كان ولداً شقياً، شرساً، يدافع عن جيرانه وإخوته ويستخدم “الموس الكبّاس” إن لزم الأمر، لكنه طيب القلب، كريم النفس، يقتسم ما بيده معك. في كل مغامرات أولاد الحارة هو الزعيم بالفطرة.
لم يكن غبياً ولا كسولا، لكن جدران الصف كانت تخنقه، “يتشعبط” سياج المدرسة العالي في ثوان ليذهب للعب في الحديقة القريبة. يحب الخضرة كثيراً ويتقن تقليد أصوات الطيور، فما إن يسمع صوت طير لأول مرة يبقى يطارده لو لساعات حتى يجيد تقليد غنائه تاركاً وراءه المدرسة تعج بالتلاميذ المدجنين وبالصراخ وبروائح لفافات “المقدوس”.
مدير المدرسة والطاقم التعليمي يكرهونه لروحه المنفلتة من عقالها. موضوع التعبير الذي يكتبه مكرهاً يثير سخرية المدرس “القومجي” صاحب النظارات السميكة. الفتاة التي أحبها وقعت في غرام ذلك الصبي المتحذلق ابن الشيوعي كما يسميه أولاد الحي. حتى الشيخ الأعمى لم يكن يحب حضوره لدرس المسجد بين المغرب والعشاء.
حدثني ذات مرة أن جارتهم السمينة صاحبة “البيجامة” الضيقة كانت أرحم الناس به، فقد ضبطته وهو يمارس العادة السرية بينما كان يسترق النظر إليها وهي تشطف الدرج ولم تخبر أمه بذلك.
كان آخر عهده في الدراسة عندما جمع مستخدم المدرسة اللئيم، الذي كان مخيفاً أكثر من المدير نفسه، التلاميذ وطلب منهم تنظيف المراحيض، فما كان منه إلا ان “لبطه” على محاشمه وولى هارباً. وقع المستخدم على الأرض يتلوى من الألم في مشهد أشفى غليل الحاضرين.
في المنطقة الصناعية تعلم مصلحة كهرباء السيارات وصار خبيراً في “الدينمو” و”الكربريتر” و”البواجي”. صار أولاد الحي يستنجدون به ليصلح “طريزينة” أحد الجيران التي كانوا يقضون ساعات في دفشها دون جدوى، إلا أن بقاءه هناك لم يطل كالعادة، فقد أدمى وجه إبن الأرمني صاحب الورشة بلكمة على أنفه لأنه طلب منه أن يغسل الصحون.
خلال خدمته الإجبارية، صادفت أول إجازة له وقت الربيع. أطلق روحه للبراري وغناء الطيور حتى ألقي القبض عليه بجرم الفرار. حدثني عن السجن العسكري وما لاقاه فيه، وكيف أنه وجد سلواه في صوت الطيور الغريبة عليه ورائحة هواء الصحراء التي تتسرب إلى زنزانته. حدثني بشغف عن السجناء السياسيين. كان يفهم أن المعتقل السياسي هو من لَكَمَ وجه ابن محافظ أو ابن ضابط شرطة كما فعل هو مع ابن الأرمني، ولهذا هم معتقلون مختلفون عنه، وأهم منه.
كان يدعوني لشرب الشاي على سطح دارهم بين عشرات من طيور الحمام التي يربيها ويعتني بها كما لو كانت من نسله، يحدثني عن جمالها وأنواعها، وقال إنه طالما حلم بأن يكون له جناحان مثلها.
عاش وهو يشعر بالذنب الكبير تجاه والديه، وخصوصاً أمه، فهو يعتقد أنها ماتت بسبب شقائه وفشله. كان دائماً يبحث عن بداية جديدة على أمل أن يفغرا له وهما اللذان رحلا قهراً من أفعاله حسب اعتقاده.
هجر الحارة، وانقطعت أخباره، وكنت بين الحين والآخر أحمل بعض الخبز اليابس إلى قبيلة الحمام التي تركها وحيدة، وراح يحارب تحت ظل راية سوداء.
أيمن الأسود
12 نوفمبر، 2017 1611 مشاهدات
أقسام
مقالات