زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى فرنسا مؤخرا للقاء نظيره إيمانويل ماكرون لم تكن، كما أعلن عنها، لأجل بحث العلاقات البينية بين أنقرة وباريس أو مناقشة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي المفروغ من كونه ملفا مؤجلا إلى أجل غير مسمى.
هذه الزيارة، في الغالب، جاءت لمعرفة الموقف الحقيقي من الانتفاضة الشعبية المندلعة حاليا في إيران.. ففرنسا هي صاحبة النصيب الأكبر من الصفقات مع طهران بعد الاتفاق النووي، وتصريحات الزعيم الفرنسي الشاب تعطي انطباعا بالرغبة في المضي قدما في دعم الثورة الإيرانية.
وبعد الاجتماع، الذي اتهم أردوغان قبله الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مبطن بالتدخل في شؤون بلدان المنطقة وتأجيج الصراعات، قال أردوغان “إنه ليس من المسلم به أن أمريكا تتدخل في زعزعة الاستقرار في إيران وباكستان”! التصريحات التي اختلفت بين عشية وضحاها تطرح تساؤلات عدة ومهمة.. هل هناك توجه حقيقي لدعم الثورة الإيرانية أم هو توريط جديد لنشر الفوضى في إيران على غرار ما جرى في سوريا وكسر شوكة هذا البلد الذي أدى مهمته على أكمل وجه في إحداث زعزعة استقرار في المنطقة العربية برمتها ووصل إلى حد الانتفاخ النهائي وبدأ مسؤولوه يتفاخرون بأنهم يسيطرون على أربع عواصم عربية. وأن إيران باتت تشكل تهديدا حقيقا على الحلفاء الحقيقين للأمريكيين خصوصا بعد التحولات التي نشهدها في السعودية ودول الخليج التي باتت ترى في القضاء على النفوذ الإيراني أولوية وجودية تتقدم على العداء التاريخي لإسرائيل، كون إيران أصبحت تشكل مشكلة حقيقية لكافة دول المنطقة.
رغم التعتيم الإعلامي والشدة الواضحة في قمع المظاهرات الإيرانية والتصريحات التي يطلقها المسؤولين الإيرانيون عن أن الأمر سينتهي قريبا، وأنه مجرد حالة سيتم التعامل معها، فإننا نرى من كثافة التصريحات وعلى كافة المستويات القيادية في إيران، إن كان السياسية أو العسكرية أو الدينية، تخوفا واضحا من انتشار الثورة واستفحالها وفقدان السيطرة بشكل حقيقي على الوضع المتردي أصلا في البلاد التي تعاني من واقع اقتصادي سيء لم يساعد توقيعها على الاتفاق النووي بأي تحسن في مجال الاقتصاد أو رفع مستوى المعيشة للمواطن الإيراني الذي تؤكد الدراسات أن أكثر من 40% من الشعب الإيراني يقبع تحت خط الفقر.
يضاف إلى ذلك، رؤوية المواطن الإيراني للأموال ومقدرات بلاده تتدفق بلاحساب على الجماعات التي يدعمها نظام بلاده في اليمن وسوريا ولبنان وغزة وأفغانستان والعراق بينما يعيش هذا المواطن حالة مزرية من الحرمان والقهر في مجتمع باتت تتفشى فيه ظاهرة الفقر المدقع بشكل واضح، وهو يرى أصحاب العمائم يتمتعون برفاهية قل نظيرها وغير مسبوقة.
إن إيران تعتبر من البلدان الغنية بالثروات الطبيعية عدا عن غناها بالنفط والغاز وموقعها المهم ومساحتها الواسعة التي تضمن لها اكتفاءا ذاتيا من كافة مناحي الحياة، والشعب الإيراني شعب ذو تاريخ عريق ضارب في عمق التاريخ، ولكنه ومنذ تولي أصحاب العمائم للسلطة في إيران تحول إلى شعب مسحوق يفتقد لأبسط حقوقه ويعاني من الضغط الأمني والسلطوي الديني الذي تسبب له بحالة من العداء مع باقي شعوب المنطقة، وأدى إلى توريط بلاده في عقوبات اقتصادية قاسية دمرت البنية التحتية للبلاد وجعلت منها دولة غير قادرة على تحمل أعباء معيشة شعبها، ولكنها في المقابل تقدم الأموال ببذخ شديد إلى أذرعها التخريبية والطائفية في المنطقة.
صيحات المتظاهرين الإيرانيين عكست السخط الكبير على سياسة النخبة الحاكمة في إيران، وتركزت في أغلبها على رفض دعم بشار الأسد في سوريا وحزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن وحماس في غزة.. وهذا يعكس الحقيقة التي لطالما حاول الإيرانييون إخفائها وتسويق تدخلهم في الشؤون العربية بحجة حماية المقدسات والرغبة في تحرير القدس ومقاومة الأمريكيين..
الشعب الايراني يبدو أنه استفاق اليوم من غفوة استمرت منذ عام 1979، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو مسار الثورة الإيرانية؟.. وهل من المسموح لهذا الشعب أن يقلب الموازين ويغير نظام الحكم؟.. أم أن المطلوب هو تدمير ما تبقى من ترابط الطوائف والأعراق الكثيرة المتواجدة على الأرض الإيرانية، والتي تضم الفرس والأتراك والعرب والأذريين والطاجيك والكرد، وإدخالها في حالة من حرب الطوائف قد تمتد لسنوات طويلة لنتفاجأ في النهاية أن سيناريو التقسيم هو السيناريو المطروح وتتحول إيران إلى مجموعة من الدول المتصارعة على ضفاف الخليج.
جميع السيناريوهات مطروحة، ولايوجد شيء واضح إلى الآن، خصوصا في ظل تزايد التصريحات الأمريكية التي تصب الزيت على النار وتعطي انطباعا للمواطن الإيراني أن هناك تأييد أمريكي لتحركه من أجل إسقاط حكم الملالي والخلاص من سيطرة الديكتاتورية الدينية المتزاوجة مع السلطة السياسية في ثنائية نادرة.
الأيام القادمة حبلى بالأحداث والتطورات المفتوحة على كل الخيارات، وإن استطاع هذا الشعب الاستمرار لفترة زمنية قصيرة وصمد أمام آلة التوحش التي تسعى لقمع تحركه فإن إيران القادمة لن يعرف شكلها أو وضعها المستقبلي أحد، فلا أتوقع أن يكون إسقاط حكم الملالي بالأمر السهل في بلد مثل إيران.. بلد مؤهل للصراع بين مكوناته بشكل كبير وليس من مصلحة أحد أن يستقر ويتخذ نظام حكم يمكنه من تحقيق تنمية حقيقة وسيطرة على ثرواته ورفع العقوبات عنه ليتمكن من النهوض وبناء دولة حقيقة تتمتع بسيادة كاملة وتمتلك ثروات هائلة تمكنها من تحقيق قفزات اقتصادية كبيرة في وقت قياسي وتتمتع بموقع يمكنها من لعب دور استرتيجي في صراعات المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى اليمن وسوريا والخليج العربي.
الصراع القادم، إن حصل، في إيران سيكون مختلفا بشكل كبير عما حدث في الدول العربية، وسيترتب عليه هزات كبيرة على مستوى المنطقة والعالم، وخصوصا في منطقة آسيا الوسطى، وسيؤثر الأمر على موقع روسيا ودورها والتي تعتبر الحليف الأقرب لإيران حاليا، وأي خلل في هذا البلد يعني أن المصالح الروسية لن تكون كما في السابق. الأمر الذي قد يؤدي بالروس إلى خسارة كل ماقدموه وتحملوه من أجل دعم نظام الأسد، ويجعلهم عرضة للاستهداف بشكل أكبر بعد غياب ورقة الضغط الإيرانية التي كانوا يستعملونها كلما دعت الحاجة إليها من أجل كسب المزيد من المصالح في سوريا وتثبيت أقدامهم فيها.
في النهاية.. المقبل مهما كان فقد أصبح هناك حالة ترقب لدى الجميع وحالة خوف من تطور الوضع أو انفجاره مرة أخرى إن استطاع النظام الإيراني هذه المرة السيطرة على الاحتجاجات والقضاء عليها ولن تعود الأمور كما في السابق، وقد تتحول الثورة وتنتقل من مربع الثورة إلى مربع الصراع الذي سيعني الدخول في بحر جديد من الدماء في المنطقة.
صدام الجاسر
6 يناير، 2018 1341 مشاهدات
أقسام
مقالات