فجأة ودون سابق إنذار وبمشهد يذكرنا بمجزرة مدرسة المدفعية حين تم فرز الطلاب الضباط العلويين عن الباقين، سمعنا في إذاعة مدرسة المشاة أمرا لبعض الطلاب للتوجه إلى مكتب ضابط أمن المدرسة، الطلاب كلهم علويون وتحديدا من القرداحة ومحيطها.
الدهشة عمّت الجميع.. أما من قرأ أو سمع عن مجزرة مدرسة المدفعية فقد توجس خيفة ووضع يده على قلبه، ثمة من حاول معرفة ما يجري قبل عودتهم.. همس لنا أحد الأصدقاء قائلا: “خرجوا من مكتب الرائد عنقا وذهبوا لمكتب مدير المدرسة..
– العمى.. معناه الموضوع خطير، انتبهوا يا شباب.. هكذا قلنا لبعضنا
عاد “رفاق السلاح” والابتسامة تكاد تشق أفواههم، والسعادة تغمرهم و”تنقّط” منهم، جميعهم بنفس الحالة من السعادة والسرور، وتكاد تقسم أنهم لن يبيعوا سعادتهم هذه بمال الدنيا كلها.
– خير يا شباب.. إن شاء الله الأمور طيبة؟!!
– كلفونا بمهمة سرية للغاية فيها مصلحة للوطن، طلبوا منا ألا نخبر أحدا، يا خبر بفلوس بكرا ببلاش، اصبروا وستعرفون.
كلنا فهمنا وتوقعنا أن المهمة السرية هي أن يعملوا مخبرين علينا ويراقبوا حركاتنا وسكناتنا ويرفعوا بنا التقارير لضابط الأمن “خدمة للوطن وقائد الوطن”.
قبل أن يحل المساء بدأ الهمس يرتفع، واعترف لنا أعضاء المجموعة أن المهمة السرية “بيننا وبينكم” هي حراسة ابن السيد الرئيس الذي سيلتحق بمدرسة المشاة متدربا، لينال رتبة ملازم أول في الجيش كونه أنهى دراسة الطب. طبعا لم يكن معروفا للكثيرين منا اسم ابن الرئيس الذي أنهى دراسة الطب، فنحن نعرف اسم ابنه الأكبر “باسل” وربما بعضنا ما يزال يظن أن الاسم “سليمان”، ونعرف اسم ابنه المعتوه “مجد” أما الاسمين الآخرين فكانا نكرتين بالنسبة لنا ولم يكونا معروفين. فرحة “رفاق السلاح” كانت أنهم اعتبروا أن مهمتهم حتى بعد الانتهاء من الدورة ستكون “مرافقين” لابن الرئيس أو على الأقل بمكتبه في القصر الجمهوري.
وصل ابن الرئيس إلى المدرسة، كان يقف في الطابور الصباحي في المقدمة بسبب طوله، رفاقنا صاروا يحرسون مكان إقامته بالتناوب.. واعتبروا أنفسهم “مرافقين شخصيين لابن السيد الرئيس”.
بدأت معاملتهم لنا تتغير، صاروا يتحدثون مع الجميع بفوقية زائدة وعنجهية غير مقبولة، بل وزاد الأمر إلى أنهم أصبحوا يتكلمون بذات الطريقة مع ضباط الدورة، ولا ينسون في كل محادثة التعريف عن أنفسهم “أنا مرافقه لإبن السيد الرئيس”.
استاء الجميع منهم، خاصة كلما أتى واحد منهم لزيارة أحد مهاجعنا، الضباط كانوا أكثر استياء، لكنهم كانوا أكثر منا قدرة على كتمان غيظهم “ربما هذا هو الشيء الوحيد الذي تعلموه من الجيش”.
حتى ضابط المطعم لم يسلم منهم، حيث كانوا يذهبون للمطعم لأخذ ربطات الخبز عند كل وجبة و”الدوسير” بكميات أكبر من الحصص المخصصة لكل طالب في الدورة”، ولم يكن يستطيع الاعتراض بسبب عبارة “أنا مرافقو لإبن سيادتو”.
الأسبوعان الأول والثاني مضيا.. والعنجهية تزداد يوميا، الفوقية بالتعامل والحديث صارت واضحة وجلية، واستياؤنا كبر أكثر.
دون سابق إنذار، ودون مقدمات جاء زميل يركض بسرعة باتجاه المهجع وينادي:
– شباااااب .. شباااااااااب .. اسمعوا هالخبر.. قاطنوا المهاجع الستة صاروا داخل مهجع واحد.
كلنا تحلقنا حوله، ننتظر أن يلتقط أنفاسه ليبشرنا.. ربما إجازة يوم أو يومان، ربما نهاية الدورة قبل موعدها!!
– شباب .. مدير المدرسة طلب أن يحضر الطلاب المرافقون لمكتبه، بهدلهم وطلب منهم أن يلتحقوا بالدورة مرة أخرى.. لأن وجودهم يحملون السلاح قرب مقر إقامة ابن سيادته قد أربك مرافقيه الحقيقيين، سيعودون بعد قليل، الخبر مؤكد وطازج.
الفرحة بعودتهم لا تشبهها فرحة، ابتساماتنا شقّت أفواهنا فعلا لكبرها واتساعها، ضحكاتنا وصلت لعنان السماء، شماتتنا لا حدود لها.
ضباط الدورة الذين رأوا تجمعنا بمكان واحد “كبسوا علينا”
– شو ولاك .. ليش متجمعين .. قرد أبتعرفو أنه ممنوع؟!!
– سيدي .. زملاؤنا “المرافقون” سيعودون للالتحاق بالدورة
انتقلت الابتسامة والفرحة لوجوه الضباط، نظرة الانتقام والشماتة كانت واضحة بعيونهم..
عاد “رفاق السلاح” لمهاجعهم، النفسيات محطمة، والوجوه يعلوها الأسى والحزن والخوف.
الشهور الباقية من الدورة انقلبت فيها الآية تماما.. حجة افتعال المشاكل معهم التي تصل إلى حد ضربهم أحيانا تكررت عدة مرات .. تنعموا بظل ابن سيادته عشرين يوما وعانوا شهورا بعدها “عرفوا أن الله حق”.
لم ينفعهم ابن سيادتو ولم يسأل عنهم .. بالضبط كما يفعل اليوم مع شبيحته وجنده.
تليد صائب