في الأول الابتدائي، كنت الذكر الوحيد في صفٍ كامل من الجنس اللطيف في مدرسة ترتع فيها آنسات يطفحن أنوثةً أيام “الشارلستون” وتسريحة السد العالي، ما جعلني أتباهى بذلك بين أقراني من أبناء تلك الأزقة العتيقة الذين لا يعرفون إلا المعلمين الرجال، وكان أكثر ما يشعرني بالزهو تذييل المعلمة واجباتي بعبارات مثل ممتاز، شاطر، بطل، وما إلى ذلك. لكن فرحتي لم تطل، فمع دخولي الصف الثاني في مدرسة الذكور التي قلما تجد من يعلم فيها مبتسماً أو لطيفاً أو حتى عادياً، لأن هذه الصفات بنظرهم لا تتماشى مع نظريات التربية السائدة في ذلك العصر، كانت صدمتي الكبرى في اختفاء كلمات الثناء، إذ حلت محلها عبارة شوهد. لم أدرك معناها وقتئذٍ، وكل ما كنت أفهمه أنها أقل بكثير من ممتاز وبعض تحليلاتي كانت تذهب إلى أنها شيء يشبه التوقيع. بعد سنوات طويلة، علمت أنها تعني تمت المشاهدة.
في تلك الأيام، كان دخولي إلى قن الدجاج أول النهار لجمع البيض مشهداً عظيماً، فيه الكثير من الترقب والأمل لي ولأمي المنتظرة في الخارج، زاخراً بعبارات ممتاز وتحيا يا بطل، هذا عندما تكون الغلة وفيرة طبعاً، ولكن عندما يحين موعد الفطور، إن احتوى على صحن البيض المقلي، كانت العلاقة معه سياحية، فمن تأخر فاته القطار، والصغار لا يصلون إليه جرّاء هجوم الكبار الماحق على ذلك الصحن، وعلى البقية الاكتفاء بالمكدوس المالح الذي لا يتوافق مذاقه مع الأفواه الصغيرة، علماً أن البيض شوهد في مكان ما. بعد العشاء، تتمدد الأجساد الصغيرة والكبيرة جنباً إلى جنب قبل النوم، وتكون الخاتمة بساط ثقيل يحبس الأنفاس تمده الأم بالعرض ليغطي الجميع في تجسيد حقيقي للإشتراكية الواقعية ما قبل حداثية وهي تردد عبارة كل يوم “البرد سبب كل علة”، ثم تعد الرؤوس لتتأكد من عدم غياب أحد، وبهذا ينتهي يومنا ولسان حالها يوقع على نتيجة الإحصاء بعبارة شوهد.
مضت الأيام، وجاءت فترة المراهقة وانتظار بنات المدارس في الصباح وبعد انتهاء الدوام، وسماع أم كلثوم وعبد الحليم طوال الليل. ولأن الجدران بين الجنسين مبنية من حجر البازلت، لم يتعدى الأمر حاجز شوهد.
تُساق إلى الخدمة الإلزامية وتلبس الخاكي وتُعامل كقرد، مع فارق وحيد وهو أنهم يبخلون عليك بالموز الذي يقدم عادة إلى القرود في حدائق الحيوان. تردد الشعارات والهتافات، تركض وتزحف، تنط وتتشعبط، يتم تدريبك على كيفية ربط عنقك بحبل الثور الذي يدور حول الساقية كي لا تغادره لاحقاً لا في عقلك ولا في جسدك. الغاية النبيلة من وراء ذلك جعلك مواطناً صالحاً، لتخرج بورقة أداء الخدمة وختم بسطار حذاء ما تدعي أنه اسمك على هيئة شوهد.
بعد الزواج والأولاد، تظن أنك ولجت مكانةً عالية في الهرم الاجتماعي والنفسي والعاطفي، لكن سرعان ما تدرك أن حدود ملعبك لم تتجاوز الهوامش. مع السفر والعمل في الخارج، تعتقد أنك أمام فرصة العمر كي تصل إلى حد أدنى من الأمان المادي، لكن تبقى على قلق كأن الريح تحتك. تدخل غمار العمل الخاص وتكرس وقتك وجهدك له، ولكن سرعان ما تقرر الخروج من المشهد بأقل الخسائر. تقرأ إعلانات الشقق السكنية والسيارات الجديدة والمنتجات التكنولوجية، وتعمل حساباتك المالية، لتخرج من كل ذلك بخفي حنين، وتكتفي بتمتمات من قصيدة شوهد.
تموت فيحملونك إلى الحفرة، ويتركونك هناك بعد أن يكتبوا بعض الكلمات على الشاهد، وكلها تعني: “هنا يقبع شوهد”. وبعد أن تطور الحال، أصبح هذا الطقس رفاهية، فلا سبيل إلى قبر ولا إلى مقبرة، فالموتى غير آمنين على جثثهم ولا حتى على شَاهِد شوهد.
الأصدقاء والأقرباء والجيران والسياسة والنضال والمؤتمرات والندوات والتصريحات واليسار واليمين والقضية وشعوب بأمها وأبيها أضحت مجرد مسميات وأرقام في خانة شوهد.
وجمهور بلادي الذي قضى عمره في مشاهدة دروس الوطنية وسماع كلمات القائد الأوحد عريض المنكبين صباح مساء، عندما فكر بالاقتراب من المنصة مغادراً مقاعد المتفرجين ولو من باب الخروج المؤقت عن النص، وجد المسرح عالياً عاتياً، فلا هو بلغ الخشبة، ولا هو حتى شوهد.
أيمن الاسود