“مستحيل أن أعود إلى سوريا لأرى من قتل شقيقي وابن عمّي يعيش حياة طبيعية، يتجول بين الناس، ويستمتع بوقت حُرمت عائلتي منه”. رأي “عصام”، وهو لاجئ سوري من محافظة ريف دمشق، يُعبر عن غالبية من استطلعنا آراءهم في مشروع “محفّزات عودة اللاجئين” الذي استمر لسنتين، وشمل مقابلات مع 39 مجموعة من اللاجئات واللاجئين السوريين في لبنان والأردن، سننشرها هذا الشهر في تقرير بعنوان “أصوات مهمّشة: ما يحتاجه اللاجئون السوريون للعودة إلى وطن”.
ففيما يجنح العالم الى اليمين والتشدد في مناحي متعددة، من المفيد أن نستمع لمن تُهمّش أصواتهم ولا يملكون نفوذا أو قوة للتعبير عن ذواتهم، لا سيما ونحن على أبواب مفاصل مصيرية في سوريا ودول الجوار سيكون لها أثر على مصائر اللاجئين، وقد بات عددهم 5.6 مليون. بالنسبة إلى اللاجئين السوريين في لبنان والأردن، فإن الخلاصة واحدة وحيدة، وهي أنهم لن يعودوا إلا في ظل عملية انتقال سياسي تضمن أمنهم وحقهم في العودة الى مناطقهم الأصلية، وتشمل عدالة انتقالية تُحاسب المرتكبين وتُؤسس لحياة كريمة بعيدا عن العنف والقتل. طبعا، هذا يشمل إصلاح المؤسسات الأمنية والعسكرية السورية بعد ارتكاباتها الواسعة النطاق. والحقيقة الصادمة لكثيرين أن غالبية اللاجئين وضعت هذه المطالب في مقدم شروط العودة، تليها الفرص الاقتصادية وإعادة الإعمار أو تأهيل أماكن الإقامة.
ذاك أن معظم اللاجئين اتخذوا قرارهم الحاسم بترك البلاد إلى لبنان والأردن بعد تعرضهم شخصيا لتهديدات لحياتهم أو سلامة أفراد من عائلاتهم، بالتالي فإن الدافع كان إيجاد ملاذ آمن. ومن بين أسباب اللجوء كان الفرار من الخدمة العسكرية، وهي موازية للموت بالنسبة إلى من تتراوح أعمارهم بين 18 و42.
واللافت أيضا أن كثرا من اللاجئين خاضوا تجارب عدة من النزوح داخل الأراضي السورية قبل انتقالهم إلى لبنان أو الأردن. ولهذا السبب، ليس اللاجئون السوريون مهاجرين اقتصاديين كما يحلو لبعض الساسة الشعبويين تصويرهم، بل هم مُهددون في حياتهم وأفراد عائلاتهم. لم يملكوا خيارات، لا بل حددت الظروف الموضوعية البلد الذي سيلجأون اليه، إما لأسباب جغرافية أو لوجود روابط عائلية أو قبلية أو اجتماعية، وأيضا سياسية إذ إن غالبية اللاجئين تُعارض النظام ولا تواليه. فإذا كنت من محافظة حمص أو ريف دمشق، فإن شمال لبنان وبقاعه الخيار الأقرب جغرافيا، وربما طرابلس وعكار والبقاع الغربي أكثر ملائمة سياسيا. والخيارات ذاتها تنسحب على الأردن، وهو الخيار المفضل لابن محافظة درعا وجوارها.
متطلبات العودة
أسس العودة هي ضمانات الأمن والأمان، وعملية انتقال سياسي، والإقامة في المناطق الأصلية، والتأسيس لآليات قضائية لمحاسبة المتهمين بجرائم الحرب، وأخيرا فرص اقتصادية. صحيح أن الأمن والأمان أولا، لكنّ كثرا من اللاجئين عبروا عن اعتقادهم بأن ذلك مستحيل من دون تغيير سياسي أو حكومة مختلفة في سوريا. من الضروري بالنسبة إليهم، أن تنتهي الغارات الجوية والحصارات وتُحلّ الجماعات المسلحة وتُزال الحواجز العشوائية، وعمليات الاعتقال التعسفية. فقط السلطات الشرعية تحتكر العنف تحت مظلة حكم القانون. وعلى هذا الأساس، أجمع كل المستطلعة آراؤهم، ومن بينهم مؤيدو النظام من اللاجئين، وهم أقلية، على أن الأطراف الدولية وحدها قادرة على توفير ضمانات حقيقية.
فئة النساء في اللاجئين كانت الأكثر إصرارا على الضمانات الأمنية، إذ ترفض بتاتا أي عودة مع أطفالها قبل الحصول عليها. غالبية الأمهات والجدات يرفضن المخاطرة بأبنائهن وعائلاتهن بالانتقال إلى مناطق تتسم مصائر القاطنين فيها بعدم الاستقرار، بما أن الأمن والأمان ليسا ممكنين في ظل النظام الحالي. كما أن النساء عبّرن بوضوح عن رغبتهن بإعادة الخدمات الأساسية وتحديدا التعليم والطبابة والسكن (إعادة الإعمار أو التأهيل) إلى مناطقهن قبل التفكير في العودة. والرغبة في العودة تتقدم مع السن، إذ إن اللاجئين واللاجئات من الفئات العمرية المتقدمة أبدوا رغبة أعلى في العودة إلى سوريا، من الشباب والشابات.
ووثائق التملك أساسية في هذا المجال نظرا إلى غياب التوثيق في مناطق عديدة، إذ شُيدت مبان سكنية على أراض تعود ملكيتها للدولة. ولأن هذه الممتلكات تعرضت للتدمير في القصف والقتال خلال السنوات الماضية، فإن العودة اليها تتطلب تسهيلات حكومية في ظل غياب أو “تغييب” الوثائق الرسمية.
الأكثر ترددا بين اللاجئين هم المتحدرون من مناطق شهدت انتفاضة أو تحولت إلى معاقل للمعارضة المسلحة، وبات سكانها يُصنّفون تلقائيا كمعارضين للنظام. ويزداد التردد بين سكان مناطق شهدت عُنفا طائفيا، إذ باتت أي عودة مرتبطة بمصالحة أهلية لم تحصل، وباتت الغلبة للطرف الحائز على دعم واضح من النظام. في المقابل، أبدى لاجئون من مناطق في ريف دمشق لم تشهد قصفا مدمرا وحصارا، رغبة أعلى في العودة الى منازلهم، لكنهم يخشون عدم السماح لهم بذلك، لا سيما في ظل عدم حصولهم على معلومات موثّقة عن القرارات والقوانين الحكومية.
خلاصة الأمر أن الغالبية الساحقة من اللاجئين السوريين تُريد سوريا مختلفة، تضمن حقوقا أساسية مثل الحرية والمساواة ونظام ديموقراطي تحت حكم القانون، علاوة على ضرورة المصالحة والوحدة الوطنية والتعايش بين مختلف مكونات المجتمع. بيد أن أزمة اللاجئين سياسية في جذرها، والعدالة بالنسبة إلى هؤلاء، تسبق عبارات إعادة الإعمار والفرص الاقتصادية. بالنسبة إلي، أكثر ما عبّر عن هذا الجذر لقضية اللاجئين، هي لاجئة سورية في لبنان ذكرت “الحرية” شرطا للعودة. وعندما سألناها “ما تقصدين بالحرية؟”، أجابت “أن أكون كيانا لديه حقوق”.
منى يحيى – مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط