لم يكن مفاجئاً انسحاب الإدارة الأمريكية من الاتفاق النووي الذي تم التوقيع عليه في سويسرا في حزيران من العام 2015 مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والذي تلاه يوم أول أمس الاثنين وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو ما أطلق عليه “خريطة الطريق الدبلوماسية بشأن إيران” والمطالب الاثنا عشر، كان هذا الموضوع أحد أهم الوعود الانتخابية للرئيس دونالد ترامب، الذي لم يترك مناسبة إلا وانتقد فيها هذا الاتفاق واصفاً إياه بأسوأ الأوصاف.
هذا الاتفاق الذي وقعه الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما باعتباره “اتفاقا تنفيذيا”، وبهذه التسمية لم يلزم نفسه بطلب موافقة مجلس الشيوخ والكونغرس الأمريكيين، لعلمه المسبق بصعوبة تمرير معاهدة بهذا الشكل والمضمون، وهذا ما سهّل على الرئيس ترامب الانسحاب منفردا وبدون الرجوع لأي مرجعية سياسية أخرى.
هذا الانسحاب وإعادة فرض عقوبات اقتصادية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية والشركات المتعاملة معها ترك العالم كله في هرج ومرج، وبينما كان زعماء الدول الأوروبية مجتمعين في صوفيا يوم الأربعاء الماضي يبحثون هذه الخطوة وإمكانية مواجهتها، كانت الشركات الأوروبية تضع خططا للانسحاب السريع من السوق الإيرانية وتصفية أعمالها هناك ومنها على سبيل المثال شركات توتال وإيرباص وسيمنز وأليانتس ومايرسك، وبذلك تكون الشركات سبقت زعماء القارة الأوروبية وأدلت بدلوها واستشعرت مصالحها ولم تنتظر أي مبادرات لإيجاد حل توافقي يحفظ حقوقها ويحصنها من العقوبات الأمريكية.
تزامن إلغاء الاتفاق مع موعد تنفيذ قرار سابق للرئيس الأمريكي بنقل سفارة بلاده في إسرائيل إلى مدينة القدس المحتلة، وواجه هذا الإجراء استنكاراً عربياً وإسلامياً شعبياً ورسمياً، ولهذا السبب قامت مظاهرات فلسطينية عارمة كانت نتيجتها استشهاد أكثر من 60 فلسطينيا على حدود غزة، مادفع مجلس حقوق الإنسان لاتخاذ قرار بإنشاء لجنة للتحقيق في أوضاع حقوق الإنسان بالضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، وهذا ما استنكرته إسرائيل التي تشن غارات بشكل مستمر ضد أهداف إيرانية في سوريا، كان أكثرها إيلاما وقوة يوم 18/5/2018.
استقبلت المنطقة هذا القرار على وقع الألم من الممارسات الإسرائيلية وقتلها للمدنيين، وتجاهل مشاعر المسلمين وإصرارها مع شريكتها الولايات المتحدة على نقل السفارة إلى القدس المحتلة. وعلى وقع الألم من سلبية السياسات الإيرانية وتدخلها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وتشكيل مجموعات طائفية، والمتاجرة بمحاربة الإرهاب، وحماية مراقد إسلامية لها قيمة عالية في وجدان كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم، والإصرار على سلوك هدّام في المنطقة وزرعها بذور حروب أهلية وإقليمية في المنطقة.
وبما أن دول منطقتنا عبارة عن أنظمة ولا يوجد فيها قرار إلا القرار السياسي، ولا تملك الفعاليات الاقتصادية أو المدنية أو المجتمعية الحق أو الجرأة في اتخاذ القرار الذي يصب في مصلحتها، كما حصل مع الشركات الأوروبية، انقسم العالم الإسلامي بين مقاربتين واضحتين تجاه قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من الاتفاق النووي، والتصعيد الاسرائيلي ضد إيران. المقاربة الأولى تتحدث عن أن ما يسمى (نظام الملالي) سرطان يجب استئصاله، ولابد من استخدام كل الوسائل والإمكانات لمواجهته، وتفكيك كل أذرعه وأدواته، ولا بد من استثمار وجود إدارة أمريكية معادية لإيران في سبيل هذا الهدف، وهذه فرصة يجب عدم تفويتها.
المقاربة الثانية تتحدث عن دعم الجمهورية الإسلامية الإيرانية للقضية الفلسطينية، وأنها دولة إسلامية وجارة، ولابد من إيجاد تفاهمات وتوافقات معها، وهذا أفضل من الانجرار وراء سياسات الإدارة الأمريكية والرغبة الإسرائيلية في زيادة جروح المنطقة، وتفكيك العالم الإسلامي وإشغاله بحروب لا أحد يعلم إلى أين ستؤول أو متى ستنتهي، ويدلّل أصحاب هذه المقاربة على أن الولايات المتحدة لم ولن تكون جادة في حربها مع إيران كما لم تكن جادة في رعايتها لعملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية، وهي التي سلّمت العراق لحلفاء إيران، ولم تتخذ السبل الكافية لحماية الشعب السوري من ممارسات النظام الذي تعتبره وحلفاءها غير شرعي، ولم تلق بالاً لهواجس حليفتها “أوروبا” بخصوص اللاجئين، وبالتالي فإن الرهان على الإدارة الأمريكية هو رهان خاطئ سيعمق الجراح ولن يؤدي إلى أي استقرار، وأن الأمل هو بتوافقات إقليمية مع إيران لإطفاء الحرائق في المنطقة. وسيثبت صحة أي من المقاربتين الخطوات التي ستتخذها الولايات المتحدة في المستقبل، وإن كان لديها نيّة في العمل على استقرار الشرق الأوسط أم أنها تسعى إلى الفوضى الخلاقة فقط.
لا يستطيع إنسان يملك أدنى ذرة من الشرف والكرامة أن يدافع عن سلوك إيران التي استغلت صراعات مضى عليها آلاف السنين واستجلبتها من التاريخ كي تبرر تدخلها بشؤون الغير، ودعمها ورعايتها للخراب، واستزلام مليشيات في دول عربية لصالح نظام ولاية الفقيه، وبالنتيجة استنزاف كل مقدرات دول المنطقة في سبيل التصدي لسياساتها ومغامراتها. وهنا لابد من استنكار ربط إيران لسلوكها السلبي في المنطقة العربية وفي إيران ذاتها بالمذهب الشيعي، هذا المذهب الإسلامي المحترم الذي يعتقد به ملايين المسلمين في العالم.
يشعر الإنسان بالغصّة والحسرة عندما يشاهد الحال الذي وصلت إليه دولنا من تخلف وانقسام وجهل وتخلف، تحولنا إلى شعوب مستهلِكة تعيش على الهامش، وبعيدون كل البعد عن المشاركة في ثورة العلم والتكنولوجيا والتطور والحضارة، ونتمنى أن تتعافى دولنا وتسير على طريق التنمية واللحاق بالعالم المتحضر الذي أعطى قبل يومين لقب “دوقة ساكس” لسيدة سمراء واعتبارها كأحد أفراد الأسرة الحاكمة العريقة في بريطانيا، بينما نحن نغوص في ظلمات التاريخ ونوقظ أسباب انقسامنا ودمارنا.
أحمد شبيب
عضو المكتب السياسي في تيار الغد السوري